عاش اليسار التونسي، على المستوى الفكري والايديولوجي، فترة يمكن الجزم أنّها «ذهبيّة» بين 1962 (نشأة اليسار الجامعي) و1976/1977 بداية ظهور «الجماعة الاسلاميّة» وتحوّلها إلى «الاتجاه الاسلامي» التي انتهى بها الحال راهنًا إلى «حركة النهضة»… فهم هذا اليسار المتكّن (حينها) من أدوات «الجدليّة التاريخيّة» أنّ هذا المنافس (الإسلامي) دخل المعركة (من أجل السلطة) كبيرًا بعمقه الديني وقويّا بقاعدة شعبيّة، ودون الحاجة إلى مقرّات، حين صرّح حسن الغضباني (القيادي حينها في «الاتجاه الاسلامي») في جامع «سبحان الله» (في باب سويقة) أنّ «المساجد مقرّاتنا»…
كانت الصدمة لليسار أكثر من النظام ذاته. هذا اليسار الذي كان فعلا (زمن الفترة الذهبيّة) يعيش حالتين:
أوّلا: صفة المعارض الوحيد على الساحة لنظام بورقيبة، وقد دفع من أجل ذلك خيرة شبابه إلى السجون والمعتقلات والمحتشدات، من مختلف الطيف اليساري، دون اغفال للملاحقات الأمنيّة وبطش «الأمن الجامعي» بالنشطاء،
ثانيا: جعل هذا اليسار المتراوح بين «المعرفة الأكاديميّة» و«العمق (التاريخي) الأيديولوجي»، من تعريف «طبيعة النظام»، «أمّ المعارك» (الفكريّة)، حين استنزفت (هذه المهمّة) من الوقت والجهد وحتّى الصراعات الأيديولوجيّة والصدام العنيف، الكثير، ليصل «الجميع» (أو يكاد) إلى تصنيف «شبه ـ شبه»، أي «شبه اقطاعي ـ شبه مستعمر»، مع تأكيد «العائلة اليساريّة» على أنّه (وهنا المهمّ) يستحيل «محاربة النظام» دون تعريف، ليشكّل هذا «الباب المعرفي» مدخلا للصراع الطبقي والثوري مع النظام.
من ذلك اعتبرت «العائلة اليساريّة» نفسها «المناضل الأوحد» وكذلك «العقل الوحيد» الذي يشتغل في البلاد، أو هو «العقل الأفضل»، حين تراوح النظام (أي عقل النظام) رغم وجود الحبيب بورقيبة (الحداثي على رأس الدولة)، بين «الاقطاع» وكذلك «الاستعمار» مع الإشارة إلى «ظلاميّة» الطرف «الإسلامي» أو هي «الرجعيّة الدينيّة»…
بروز الطرف الإسلامي شكّل الصدمة الكبرى، التي لا تزال تهزّ الوعي اليساري إلى يوم الناس هذا. كيف لهؤلاء الذين لا يملكون أدنى معرفة بما يملك هذا اليسار من «جدليّة التاريخ» أن يتجاوزوا كلّ هذه «النضالات» ويحتلّون المرتبة الأولى في الصراع مع النظام «شبه ـ شبه»؟؟؟
عندها انقسم اليسار (فكريا على الأقل)، بين «شق ثقافي وفكري» يؤمن بما هو «تثليث»، أي مقارعة الاسلاميين ومقاومة النظام (في ذات الوقت، دون مهادنة أيّ منهما ودون التحالف مع ايّ منها أيضًا)، في مقابل «الشق الايديولوجي والبراغماتي» الذي يرى أنّ «المصلحة» تملي «التغلغل» في النظام، واستغلال حاجته لأيّ حليف في مقارعة «الاتجاه الاسلامي» الذي تحوّل إلى «غول» (حقيقي) لدى السلطة.
من زهيّر الذوّادي إلى عبد العزيز المزوغي لم يتغيّر الخطاب قيد أنملة:
الأوّل قال عندما صعد بن علي إلى السلطة في 1987 أن «ماكينة» الحزب الحاكم (حينها) تأتي أشبه بكمبيوتر دون برمجيات، وأنّ «النوفمبريون» (أي من التحقوا بالنظام من اليسار بعد سيطرة بن على البلاد) سيكونون «البرنامج» الذي ليس فقط سيحرّك هذه «الماكينة» الصمّاء والجافّة وحتّى الغبيّة، بل المسيطرين الفعليين على مقاليد البلاد والعباد، على اعتبار أن «زين العابدين» ذاته، لا يملك عمقا فكريا وزادا معرفيّا ومقدرة على التفكير خارج منطق الجيش والبوليس…
كذلك أعلن عبد العزيز المزوغي (المحسوب على الشقّ اليساري في نداء تونس) قبل فصله/انسحابه مخاطبًا فوزي اللومي في اجتماع للقيادة: «أنتم (التجمعيون) صورتكم متسخة، ونحن (اليسار) من ناضل، أيضًا أنتم (التجمعيون) تملكون المال، وأنتم (التجمعيون) تملكون «الماكينة» الشعبيّة»، واستخلص المزوغي كما الذوّادي مخاطبًا فوزي اللومي وأمثاله: «نحن (اليسار) من سيصعد إلى السلطة، وأنتم تبقون في الخفاء (إلى حين نتمكّن)، تدفعون المال وتقدمون الجماهير سواء للتظاهرات أو عند التصويت»…
خرج فوزي اللومي في حلقة من برنامج «الصراحة راحة» على قناة حنّبعل، ليقول ثلاث حقائق كذّبت مقترحات عبد المزوغي الثلاث:
أوّلا: تجمعيون ولا نخجل
ثانيا: نحن نمثّل عمقا شعبيا حقيقيا
ثالثا: من حقّنا (أي التجمعيين) المشاركة في السباق الانتخابي.
أخطأ زهير الذوادي القراءة، وانتهى الأمر بفئة «النوفمبريين» إلى أن صاروا «ممسحة» لنظام بن علي، ودفع المزوغي ثمن تطاوله على «عالي المقام» بأن غادر الحركة دون أن يثير ذلك حفيظة رفاقه من «أهل اليسار»، وها هم رفاقه ينفصلون عندما لم يفهموا أنّ رابط «معاداة الاسلاميين»، زمن بورقيبة أو زمن بن علي، أو زمن الترويكا لا يمكن أن يشكّل بأيّ حال (وهنا الحقيقة التاريخيّة التي يرفض اليسار رؤيتها) أن يشكّل القاعدة الضامنة لأدنى «مسار مشترك» بين هذا «اليسار الايديولوجي» وهذه «الماكينة التي تحكم البلاد»…
إنّها الحاجة إلى «تيّاس» ولا ترتقي إلى «زواج المتعة»، عجز اليسار عن فهمها (منذ 76/77 إلى اليوم)، لذلك فضل الباجي (في سرعة شديدة) وفي قرار قاطع واستراتيجي، ودون تفكير البتّة، «التوافق» مع «غريمه» (السابق) «راشد الغنوشي»، وكما قال أحد اليساريين :«لم يثمر فيه الماء والملح متاع اعتصام الرحيل في باردو»، حين تجاوز «شريكه» (السابق) في جبهة الانقاذ «حمّه الهمّامي»!!!
يمكن الحديث عن «غريزة سياسيّة» لدى «الدولة العميقة» التي يأتي الباجي قائد السبسي أحد أعمدتها، لذلك لا يمثّل انشقاق محسن مرزوق مع من معه، سوى محصّلة طبيعية ونتيجة منطقيّة، بل جزءا مؤسّسا من «قانون الطبيعة (السياسيّة)» في تونس.
كما لا يمكن انتظار مولود من زواج القرد بالزرافة، لا يمكن لعلاقة اليسار بالتجمعّ أن تدوم أكثر من زمن المعركة ضدّ الاسلاميين.
على عكس التاريخ، حين غادر «النوفمبريون» المنظومة الحاكمة وهم يجرّون «أذيال الخيبة» إلى الآن، يحاول محسن مرزوق ومن معه الفوز بمعركة تأتي أشبه بمعركة حنّبعل الأخيرة على أرض بلده، ليغار البلاد دون رجعة، ويدفعه الخوف من السقوط بين يدي روما إلى الانتحار شربًا للسمّ…
التاريخ كلّه عبر… لمن يعتبر
105 تعليقات
تعقيبات: shop arcteryx
تعقيبات: Millet outlet online
تعقيبات: longchamp fr
تعقيبات: Victoria's Secret for sale
تعقيبات: roger vivier shop