إنّها المفاجأة الكبرى، لمن والوا الفلسطينيين وكانوا معهم بالقلب (أضعف الأيمان)، والصدمة الصمّاء لأعدائهم ومن يوالون الصهاينة: كيف استطاع فتية مقدسيون، محاصرون في جيوب شبه معزولة، أن يقلبوا ليس المعادلة ويجعلوا القدس الغربيّة ممنوعة على الصهاينة ليلا فحسب، بل في التأسيس لرعب مقابل الجبروت وخوف مذلّ يقابل البطش والإرهاب الصهيوني.
إنّها بطولات في شكلها الفرجوي الأكيد، حين جاء العمق العربي والإسلامي في حاجة إلى مثل هذه البطولات القادرة، على نزع مرارة تسكن أسفل الحلق دون قدرة (من أحد) على نزعها، سوى التخفيف منها بمثل ما نرى من بطولات.
إضافة إلى هذا الترياق القادر (دون غيره) على جعلنا نحسّ أنّ في الأمّة ما يمنع اليأس الشامل وما يقف في وجه القنوط دون حدود، تأتي «انتفاضة السكاكين» لتضرب هيبة «منظومة الدفاع الصهيونيّة» في صميمها. أوّل صميم القدس وما تحمل من رمزيّة مركزيّة في الفكر الصهيوني ومشروعيته، وثانيا (وما لا يقلّ خطورة) كسر هيبة أجهزة المخابرات الصهيونيّة بكاملها، التي صنعت لنفسها صورة القادر على التنصّت على دقّات القلوب ومعرفة سرائر أنفسنا، أينما كنّا.
ها هم فتية «مغمورون» لا عهد للإعلام بهم، يخرجون من صمتهم ويتجاوزون الأطر التقليديّة، ليصنعوا لأنفسهم ما عجز الأخرون عن فعله أو حتّى التفكير فيه أصلا.
إنّه انقلاب في المفاهيم وتدمير لأغلبها، ممّا يجعل الأمور عاجزة عن العود إلى مربّعها الأوّل وعاجزة كذلك عن النزول إلى مستوى يماثل أو يقارب ما كان عليه الوضع، لأنّ الحرب والصراع كما الوجود يتأسّس على انتفاء التعايش بين مفهومين. من ذلك ودون المعرفة الدقيقة بالهويّة الفكريّة لهؤلاء الشباب، يمكن الجزم أنّهم جيل نفي وقطيعة مع الصهاينة.
ربّما أخطر من النفي وأعمق من القطيعة، أنّهم عصاة عن التدجين، حين نالوا منذ الولادة نصيبهم الذي هو جزء من نصيب شعبهم، ومن ثمّة لا مجال لأيّ «مقاربة سيكولوجيّة» أو «تأهيل نفساني» لهؤلاء «العصاة والمرقة»… بل هم الأقدر على طعن الصهيوني بالسكين كما بالكلمة، أو بالأغنية وكلّ أوجه الانتاج الثقافي.
يثلج الصدور أنّهم بذرة طيّبة، رعت نفسها بنفسها أو رعتها أياد بعيد عن المفاخرة ودون أعين العسس والمراقبين من ذوي القربى قبل الصهاينة وأنهم كمثل الصرخة التي انطلقت، لن ينقطع صداها بإذن الله ورعاية منه…
أخطر من كلّ هذا، أنهم يبدون وحدة فكريّة أكثر من تشكيل تنظيمي، كأنّهم ليسوا في حاجة للتخاطب أو يتنافذون عبر أشكال لا نفقهها، والأهمّ ألاّ يفقهها الصهاينة.
قوّتهم وانجازهم أنّهم نقلوا التناقض وغرسوه كمثل ما يفعلون بخناجرهم في قلب المشروع الصهيوني، حين نرى عتاة المشروع ذاته، يحذرون من دخول المسجد الأقصى، يفتي كبارهم بحرمة الزيارة. يكون الصهاينة حينها، كما تضعهم أشكال المقاومة الأخرى، أمام أسئلة «وجوديّة»، بالمفهوم الحقيقي وليس الفلسفي، أسئلة يخشاها ويكرهها الفكر الصهيوني المريض والرافض لمعاينة نقاط ضعفه، على مستوى المفاهيم وقيمة القناعات، وإن كان «عقلانيّا» على مستوى الأدوات والوسائل.
إنّها كرة النار التي يخشاها الصهاينة، بل جاءت في كوابيسهم وأصبحت جزءا من هواء يومهم.
من الأكيد أنّ المشروع الصهيوني لا يتحلّى بأيّ حال بصفات «المجتمع» (ضمن المعنى المعتمد في علم الاجتماع)، ومن ثمّة يبقى مهدّدا من داخله بهاجس الانفراط، كما بفعل الضربات التي يتلقاها من لدن كلّ أشكال المقاومة، لذلك وجب على هذه المقاومة أن توجه الضربات إلى نقاط ضعف الداخل الصهيوني ليكون الفعل أقوى والتأثير أشدّ، مع التأكيد على أنّ «شباب السكاكين» يحتلون موقعا متقدّما بل متميزا في قراءة نقاط الضعف هذه وتحديد مواطنها، كما يملكون القدرة على زرع التناقض داخل هذا المجتمع المصطنع، بدليل امضاء مجموعة من حاخامات «فتوى تحضر دخول المسجد الأقصى» (خوفا على حياة الصهاينة) لتتحوّل التناقضات داخل المشروع إلى شروخ تسبق (إن شاء الله) التفتت والاندثار.
الفتية المغمورون، تجاوزوا وتقدمّوا أشواطا على «صراع العقول» حين حسموا أمرهم وعقدوا نيتهم وأعدّوا ما استطاعوا، وما وصلت إليه أياديهم، ليكون اليقين بأنّ لا منظومة فكريّة قادرة على زحزحة معتقدهم أو إعادة صياغة عقولهم، بل هم الأقدر على التأثير وزرع الرعب وغرس الشكّ في المشروع برمّته.
إضافة إلى بعدها العاطفي الأكيد وما تمثّل «انتفاضة السكاكين» من بعد عقدي أو قومي أو حتّى أممي، إلا أنّها بكلّ الأشكال «معركة» (ضمن المعنى الشامل للكلمة)، تنضاف إلى مسيرة النضال الفلسطيني والدعم العربي والمساندة الأمميّة. كذلك أسّس هؤلاء الشباب بل أثبتوا ورسّخوا أنّهم على مستوى الذكاء والفطنة والابتكار أرقى من الصهاينة الذين أسّسوا أسطورتهم على «التفوّق العرقي على العنصر العربي»…
هي خطوة هامّة، لكنّ نقطة ضعفها في وهن العمق العربي، ممّا يجعل «انتفاضة السكاكين» أشبه برأس حربة يبحث عن بقيته، ليستكمل النفاذ إلى العمق بل القلب الصهيوني، لذلك يأتي الرهان على فكّ العروة بين رأس الحربة (فلسطين) وبقيّة الحربة (العمق العربي والاسلامي والأممي)، مسألة حياة أو موت، بالنسبة للغريزة الصهيونيّة، سواء من خلال التأسيس لبديل (داخلي) فلسطيني يكون ليس النقيض فقط، بل يتولّى إلهاء المشروع المقاوم والدخول به في زواريب التفاهة وتفرعات مسائل لا علاقة لها بالمشروع الأصلي، أو بفك الرباط مع العمقين العربي والاسلامي وما هو تعاطف عالمي، حين جاء العمل كذلك على إلهاء الشعوب العربيّة والاسلاميّة بمشاريع انفصال عن القلب الفلسطيني.
لذلك لا يمثّل خروج الجماهير في العالم بأسره ترفًا أو فعلا عديم النفع، بل هو بداية الطريق وأوّل الدرب والمسير على خطى من ذهبوا من أي بلاد عربيّة إلى فلسطين عند انتصاب المشروع الصهيوني، على الأقدام في أغلب الحالات، دفاعًا عن الأمّة وعن القلب من الجسد.
إنّها فلسطين وستبقى….