يمكن الجزم أن المغرب العربي احتلّ صدارة الإعلام على مدى الأسبوع الفارط بكامله، حين تحوّلت مدينة بن قردان من مدينة صغيرة ميزتها «التهريب» إلى اسم يردّده الاعلام العالمي والعربي، في بحث عن موقع هذه لها على الخارطة.
لم تتحوّل بن قردان من مدينة مجهولة أو منسيّة إلى «أمّ المدن» بسبب الهجوم الإرهابي الذي أرادت منه (ما يسمّى) «داعش» تأسيس «إمارة» فقط، بل (وهنا الأخطر) ذهاب الأحداث ضمن منحى، لم يكن أحد يتصوّره في تونس، على ثلاث مستويات:
أوّلا: لم يكن أحد يتخيّل أنّ (ما يسمّى) داعش تستطيع أن تجيشّ مثل هذا العدد من القادمين من ليبيا أو من الخلايا النائمة، دون أن تكون وزارة الداخليّة ومن ورائها كامل منظومة الدفاع عن البلد، قادرة على استباق «الهجوم» وإن لزم وأده قبل الانطلاق.
ثانيا: لم يكن أحد يتخيّل أن تستطيع قوى الأمن والشرطة تدارك الوضع في وقت قياسي وقلب المعادلة، بدءا بإسقاط «المشروع السياسي» (لما يسمّى) داعش وثانيا تحقيق نصر سريع في المواجهة العسكريّة، ليكون التحوّل والانطلاق باكرًا في عمليات أمنيّة، هدفها كشف الخلايا النائمة والسيطرة على مخابئ السلاح والقاء القبض على العناصر الفارّة.
ثالثًا: يمكن الجزم أنّ «ورقة الجوكر» التي قلبت المعادلة، بل جعلتها تنتقل من «نقيض إلى نقيض» تكمن في موقف العمق الشعبي من «المشروع السياسي» (ذاته) أيّ «تأسيس الإمارة»، وما تبع من مواجهات أوّلا، ومن بعدها عمليّة التتبّع.
يمكن الجزم أنّ الاستنتاج الأوّل والأهمّ، بل الحاسم والفاعل، على مستوى أحداث بن قردان، جاء على مستوى «القناعات» وكذلك «المفاهيم»…
في المقلب الأخر من الوطن العربي، وفي قاهرة المعزّ لدين الله الفاطمي، اجتمع العرب ممثلين في وزراء خارجيتهم، من أجل «ذات المعركة» (على مستوى الشكل)، أيّ البتّ في «القناعات» والحسم في «المفاهيم»، حين تبغي المملكة العربيّة السعوديّة ومن ومعها، جعل «حزب الله» تنظيمًا ارهابيّا، من خلال «الاجماع العربي»، دون حساب لكلّ من العراق ولبنان والجزائر، التي فضّلت التغريد خارج السرب.
هي ذات المعركة من بن قردان، وقبلها سرت في ليبيا والموصل في العراق والرقّة في سورية، وفي المقلب الأخر ذات المعركة، بدءا بما قبل معركة «القصير» إلى الحسم في نواحي حلب ومن قبلها أو بعدها معارك أخرى، جعلت مسار الحرب يتجه على عكس اتجاهه الأوّل…
حين نأخذ كلّ معركة على حدة، لا مجال للكثير من اللغط أو هو الاكثار من النقاش، لكن عندما نجمع مسألة (ما يسمّى) داعش، مع وجود حزب الله على أرض السوريّة، نجد أنّ الجميع لم يحسم العلاقة (على مستوى المفاهيم) بين المعادلتين، بل هو (في كثير من الأحيان) في عجز تامّ عن تقديم الحدّ الأدنى من الإجابة المتناسقة.
هي أزمة تتأسّس على «القناعات» بالتأكيد وتقوم على «المفاهيم»، لكنّها معركة «سياسة» وكذلك معارك «حربيّة» على أرض الواقع. المسألة سهلة ومريحة، بل «مغرية» أمام جمهرة المثقفين والراكضين على شبكة العنكبوتيّة، لكنّها عويصة أمام من عليه أن يعيش على الأرض واقعًا، لا يحتمل تفرعات اللون الرمادي، بل يبغي اصطفافًا مع الأبيض أو وقوفًا إلى جانب السواد من اللون…
لا يمكن لمن يجاهر بمعاداة (ما يسمّى) داعش أن يراها في سورية جزءا من منظومة اسقاط النظام، ولا يمكن لمن يعتبر «حزب الله» تنظيمًا ارهابيّا أن يجعل من هذا الحزب أداة لمحاربة داعش. من الأكيد أنّ عديد المثقفين الجالسين على ربوة الكمبيوتر يملكون قدرة تكفير داعش كما حزب الله وجعل الجميع في سلّة واحدة، لكن المملكة العربيّة السعوديّة (ومن معها) بما لها من مصالح على الأرض، عاجزة عن وصم كلّ من داعش وحزب الله بالإرهاب سواسية والتصرّف على الأرض على هذا الأساس، لأنّ الأرض تحكمها المصالح، وتديرها قوانين لا يمكن أن تُرضي ذلك «المثقف الراقد أمام الكمبيوتر» ولا مجلس وزراء الداخليّة العرب أو وزراء الخارجيّة الذين يريدون صناعة «وهم القناعة» وكذلك «سراب المفاهيم» من خلال «بيانات» ذات مبنى أقرب إلى «الأخلاق» منه إلى السياسة الفاعلة والفعّالة.
كذلك، يتطلبّ «العمق الشعبي» (القابع وراء الكمبيوتر أو أمام الشاشات) ممّن هم «يديرون اللعبة» جملة من القناعات البسيطة والمفاهيم الجاهزة، حين لا قدرة لأيّ مواطن يجلس في بيته أن يعترف بأنّ (ما يسمّى) داعش أصبحت «قوس قزح»، ألوانها مقبولة في العراق والشام، مرفوضة في ليبيا ومرفوضة في شدّة في تونس. هذا المنطق «الانتهازي» ضمن المعنى المقبول للسياسة (المتداولة)، عاجز عن دخول العقول البسيطة، وعاجز عن التصريف خارج المحافل السياسيّة ودهاليز المخابرات، لذلك يأتي جزء من اللعبة ويقتضي منطق التصريف «صناعة ساتر اعلامي» (أوّلا) يمكّن من «التعمية» من خلال «مفاهيم» بسيطة وكذلك «قناعات» مجرّدة…
رجوعًا إلى التاريخ العربي وغيره، يمكن الجزم أنّنا أمام قانون أصبح في حكم المقدّس: من ربح معركة المفاهيم وحرب المعتقد، يربح المعركة على الأرض، وتأتي قوّة المفاهيم وضراوة المعتقد في التماسك، وفي القدرة على صناعة «الصورة» المتماسكة أوّلا، وكذلك و(هنا الأهمّ) النتيجة على الأرض…
في زمن صارت فيه السياسة والحرب، أقرب إلى «مباراة كرة قدم» حين لا رغبة في الغطس في التفاصيل، بل الحصول على الخلاصات الجاهزة، يمكن الجزم أنّنا أمام معركة أو هي معارك، على كلّ أن يختار بين «الزلاّقة» مقابل «العُقاب»….