عند بسط الخارطة، تتوضّح المكانة الاستراتيجيّة لمدينة بن قردان، على اعتبارها مدخل الجنوب، والبوّابة نحو جربة، وكذلك طرق الشمال والجزائر، من ذلك لا يحتاج المرء إلى ذكاء كبير ليدرك أمرين على قدر كبير من الخطورة والأهميّة:
أوّلا: المكانة الاستراتيجيّة لهذه المدينة، التي تمرّ عبرها المبادلات التجاريّة (الرسميّة أو التهريب) مع الشريك الاقتصادي الهامّ ليبيا، وكذلك غياب أيّ نشاط صناعي أو فلاحي أو غيره، قادر على تعويض هذه التجارة وهذا التهريب.
ثانيا: التأثيرات الخطيرة لأيّ انخرام للأمن في هذه المدينة وهذه المنطقة، على مجمل المحيط الاقليمي والدوائر الدوليّة، علمًا وأنّه لم يسبق لإرهاب «الدولة» (أي إرهاب ما يسمّى داعش، الراغب في احتلال الأرض) أن اقترب بهذه الطريقة من أوروبا ومن الجزائر.
دون أدنى شكّ، ودون حاجة إلى التخمين، أنّ إضافة إلى «الدولة التونسيّة»، استفاقت أيضًا «أجهزة الاستشعار» في كلّ من الدول الأوروبيّة والجزائر، ليس فقط، بحثًا عن «المعلومات» وكذلك «قراءة الوضع»، بل السؤال الذي ينقسم إلى شقّين:
أوّلا: ما هو حجم القوّة التي دفعت بها (ما يسمّى) «داعش» إلى أرض المعركة، سواء ما قدم من ليبيا (حديثًا) أو «الخلايا النائمة»، دون اغفال السلاح، على مستوى الكمّ والنوعيّة والانتشار.
ثانيا: قدرة «الجانب التونسي» على استيعاب الضربة الأولى ومن ثمّة التصدّي لهذه الهجمة، سواء على مستوى القوّة الموجودة على عين المكان أو القدرة على الدفع بقوى أخرى من مناطق مجاورة أو بعيدة.
المعلومات الواردة من أرض المعركة، تتفق على أنّ «الجهة الرسميّة» (التونسيّة) استطاعت في سرعة احباط الهجوم أو على الأقل جعله لا يصل الحدّ الذي أرادته القوّة المهاجمة، ومن ثمّة صار التفكير في الهجوم المعاكس.
رغم اجماع المراقبين وجميع الذين يعيشون على عين المكان على أنّ الخطر تراجع إلى أقصى درجة، إلاّ أنّ القيادات الأمنيّة في كلّ من أوروبا والجزائر، بقدر ما فرحت بقدرة الجهة التونسيّة على صدّ الهجوم والذهاب في الهجوم المعاكس، إلاّ أنّها تطرح السؤالين التالين:
أوّلا: هل لاتزال (ما يسمّى) «داعش» أو أيّ جهة ارهابيّة أخرى، تملك القدرة على «الضرب من جديد» في بن قردان، خاصّة وأنّ حجم الهجوم (عدد الارهابيين وكميّة السلاح) كان أكبر بكثير ممّا بدا صباح يوم الهجوم؟
ثانيا: ماهي خارطة الوجود الفعلي لهذه الجهة الارهابيّة في تونس، أي البلاد التونسيّة، وهل تملك هذه الجهة القدرة على اعادة السيناريو في مدينة أخرى؟؟؟
من الأكيد وما لا يقبل الجدل، أنّ «أجراس الانذار» جاءت قويّة في العاصمة تونس والجزائر العاصمة وبعض العواصم الأوروبيّة، لكنّ الدرس الأوّل والخطير:
أوّلا: قدرة (ما يسمّى) «داعش» على الضرب بمثل هذه القوّة وهذا العدد من الارهابيين، خاصّة أنّ الجزء الأكبر من الارهابيين والكمّ الأهمّ من السلاح، كان قائمًا بالمدينة، مّما يطرح السؤال بل التساؤلات عن أداء «جهاز الأمن» الذي لم تصله معلومة من أي درجة، تساعد في احباط العمليّة قبل وقوعها.
ثانيا: أداء الساكنين في بن قردان، الذي أذهل الجميع، حين فنّد الواقع عديد «التقارير» التي تحدّثت في لهجة الوثوق بل اليقين، أنّ الجنوب التونسي أشبه ببرميل بارود يبحث أو هو مشتاق لشرارة. حين ثبت أنّ العمق الشعبي رفض التعامل مع الارهابيين، بل تحوّل إلى عون عليهم وعين لقوّات الجيش والشرطة في المنطقة.
سواء صدقت الأخبار عن تحرّك الجيش الجزائري فعلا على الحدود المشتركة مع تونس أو لا، فالجزم قائم أنّ الاهتمام الجزائري بالوضع في تونس، سابق لما هو الحال في جنوب البلاد وفي بن قردان على وجه الخصوص، حين أعربت عديد الجهات المختصّة في الجزائر أنّ لا خوف من مرور الارهاب مباشرة من ليبيا، بل الخوف كلّ الخوف، أنّ تتحوّل تونس (بفعل الارهاب) إلى منطقة «غير مستقرّة» تهدّد الأمن في الجزائر.
كذلك الشأن في أوروبا، حين يذكر الخبراء جيّدا أنّ فترة انخرام الوضع في تونس، بُعيد 14 جانفي، هاجر على قوارب الموت قرابة 15 ألف شخص في أيّام معدودات، ليكون السؤال المرعب بل هو الكارثة، عن عدد «المسافرين» إلا أوروبا في حال صار وضع تونس أشبه بالعراق أو بسورية؟؟؟؟
من الأكيد أن تونس (منذ قرطاج إلى الآن) تحتلّ قيمة استراتيجية تفوق أحيانًا قدرة من يحكمها على إدارة هذا الموقع، ومن ثمّة تأتي تونس، بل تمثّل (كمثل ما هو قائم) نقطة المركز لدوائر عديدة، بدءا بطيف الصراعات الداخليّة، مرورًا بالدوائر الاقليمية والأخرى الدوليّة…
كذلك، جاءت أحداث بن قردان، لتثبت بل تؤكّد أن الوضع في ليبيا ليس فقط مفتوح على الاتجاهات جميعها، بل (وهنا الخطر) قادر على فتح «النار» على البلدان المجاورة، أو أبعد منها، حين وضعت عديد الجهات الأوروبيّة تسلّل كوماندوس لداعش في صورة «الهجرة السريّة» للقيام بعمليات في الداخل الأوروبي، تتجاوز (بكثير) الارهاب التقليدي، ليصل الأمر حدّ إقامة «إمارة» في قلب أوروبا…