حين نريد توخّي الصورة التقريبيّة القادرة على تقريب المشهد السياسي الحالي من وعي القارئ، نعود إلى أفلام التشويق ونقول أنّ تونس تأتي أشبه بسفينة تسير في بطء شديد وسط ضباب كثيف، في ليل غاب قمره، مع ربّان يسير على هدى شمعة صغيرة، بالكاد يميّز بها ما يراه على بعد أمتار.
التفاؤل والتشاؤم يبدلان التأويل وليس الحقيقة: ائتلاف حكومي انفجر شفعًا وانقسم وترًا، ومعارضات عجزت عن الالتئام من أجل فلسطين في تظاهرة جامعة، وكلّ منها يغنّي على «زيّ رأسه»، ومسار اقتصادي لا يلبّي الحدّ الأدنى ممّا ترقبه الناس منذ عشيّة يوم 14 جانفي.
تونس لا تعاني من العسر الاقتصادي والتوتّر الاجتماعي فقط، بل تعاني من غياب البرنامج وانعدام الرؤية وتلعثم الخطاب السياسي أو هروبه إلى العنف اللفظي داخل الأحزاب وبينها.
تصفية الحسابات داخل الأحزاب وبينها، تجعل الشعب الذي يستبطن (افتراضًا) قيادة سياسيّة «ناضجة ومسؤولة» يحسّ بمرارة شديدة كمثل العلقم، ليس خوفًا على البلاد فقط، بل لانعدام هذه الرؤية حين تتوسّع دائرة المرارة وتتعمّق في الحلق…
لا أحد يحلم (بما في ذلك أرقى الديمقراطيات) بطبقة سياسيّة تحبّ بعضها «حبّا جمّا»، كما هي جمل التعبير الكتابي في فروض الانشاء، لكن المطلوب ألاّ تنزل هذه «النخبة» إلى ما تحت الحزام أوّلا، وثانيا (وهنا المصيبة) أنّ تقدّم الطبقة السياسيّة بفعلها وردّ فعلها ما يثلج الصدر ويطمئن القلوب ويضمن الاستقرار في البلاد.
احساس العجز يمثّل السبب الأهمّ لحال التوتّر الاجتماعي، حين زاد منسوب الوعود وقلّ أو انعدم مستوى الانجازات أو هي بعيدة ومؤجلة أو يرفضها عقل المتلقّي…
قد نختلف في تقدير الوضع على المستوى الاقتصادي، لكن الاكيد فوق هذا الاختلاف الأكيد، أنّ الوضع الحالي مهما جاءت جماليّة التوصيف (حين نصدقها) تأتي أشبه بالأشجار المعدّلة جينيا التي تعطي زرعا يانعًا دون ثمرٍ.
يعشق المواطن الأرقام الجميلة والوعود العسليّة، لكنّه يعشق أكثر الدنانير الرنّانة في جيبه والأسعار المعتدلة أمامه…
لا حاجة للقول أنّنا دخلنا فترة أشبه بما كان الوضع زمن بن علي، ليس على مستوى طبيعة الحكم السياسي القائم في البلاد، بل في الانحسار المتزايد للعلاقة وخاصّة للتفاعل بين «الرحى السياسي» (الفوقي) مقابل «الدوران الاجتماعي» (السفلي)، لم تعد مشاهدة الشأن السياسي على المنابر الاعلاميّة تهمّ من باب الاهتمام بالشأن السياسي ذاته، بل حين صارت السياسة فرجة أوّلا، وثانيا والأهمّ حين صارت المشاهدة من «الخوف» سواء بحكم «الارهاب» او هذه الصراعات الفوقيّة….
تبدو الطبقة السياسيّة في صورة الأطرش غير المعني بهذا الحراك. لا أحد من هذا الائتلاف السابح في سرابه أو هذه المعارضات العائمة في عماها، أدرك الدرس المصري، حين انفضّ عن نظام السيسي معارضيه (من كامل الطيف) لكنّ الأخطر وما يبعث على الرعب هو حين ينفضّ عن النظام عمقه الشعبي التقليدي، الذي لا يمكن سوى لجاهل القول بعدم وجوده (قبل الدورة الفارطة من الانتخابات التشريعية)…
حين يعشق القراء الصور التشبيهيّة، تأتي الحالة التونسيّة أشبه بسفينة «تيتانيك» الضخمة لحظة الارتطام بالجبل الجليدي، حين حسب من في الأعلى (المعارضة) أنّ بغرق من في الأسفل (الائتلاف الحاكم) سترجع لهم السلطة على كلّ أطباق الماس والجوهر…
المصيبة أن تتحوّل «المعارك» بين الأطراف الحاكمة، كمثل «حرب البسوس داخل النداء» أو «داحس وغبراء» التي يعيشها جامع اللخمي إلى أمّ المعارك المصيريّة للبلاد. إنّها مجرّد جولات (بمفهوم الملاكمة) لتجسيد هذه الجهة وجودها أو الأخرى على تسيطر مقاليد السلطة ومقادير البلاد.
من المصيبة الخطأ في قراءة المشهد، المعركة الكبرى لا تكون سوى من أجل الديمقراطيّة والتشغيل والكرامة في جميع صورها، أمّا «المناوشات الأخرى»، فإنّها ملهاة عقيمة في بلد المأساة الكبرى….
على المستوى الاقليمي تبدو تونس كمثل ليبيا دون المليشيات ودون الأسلحة لحسن الحظّ، غياب لسلطة مركزية جامعة، تذبذب في القرار السياسي، وعدم استقرار لا يخفى عن أحد، ممّا يجعل القاصي قبل الداني، يترقب نهاية المعارك البيزنطيّة لملوك الطوائف السياسيّة، حتّى يرى المستقرّ… حزب منقسم كمثل الرضيع برأسين، رأس يشتم الحكومة ورأس يمدحها، ونهضة في الحكم دون أن تحكم، أو ودون رغبة منها في أن يراها الناس تحكم.
خطورة الوضع في أن تتحوّل «المعارك الجانبيّة» بحكم التوتّر إلى أشبه ما يكون الصاعق في مخزن بارود. البلدان المتقدمة تشهد معارك وصراعات وحتّى (كما هو الحال في فرنسا) شتائم بين السياسيين على المباشر، لكن لا وجود في فرنسا لما هو عليه الوضع من توتّر…
الأخطر من الوضع القائم هو انعدام الوعي بخطورته، حرب النداء لن ترى خلاصها غدا، والانتفاضة القادمة داخل النهضة قد لا تكون بالقوّة التي تقلق لكنّها نذير شؤم، بعد أن تخلّت «القيادة» عن «نجم صفاقس» رضا الجوّادي، أو هي (كما كتب أحدهم) «تريده أن يكون كبش فداء كما كان صالح كركر في فرنسا»… الظرف ليس ذاته بين الحالتين، لكن الباجي والغنوشي يدركان أنّ «المبايعة» ليس صكّ براءة دائمًا أو توكيلا مفوّضا دون تراجع…
مادام السياسيون لا يطمئنون للشعب و لا لخياراته و يهرولون للسفارات و ارضاء الغرب فلن أتوقع منهم الخير..
المعارضة طرشا عما يدور في الساحة ربما لأنه ليس لها بديل أو برنامج سوى معارضة النهضة و الإستثمار في الدم