«لذّة (هذا) الكتاب»، حين تكون لكلّ كتاب لذّة، تكمن أوّلا في الاطلاع على قدرة راشد الغنوشي على اسقاط مواقفه ومبادئه على أسئلة الصحفي، وثانيا ذلك التفكير الدائم في الخروج ممّا يمكن أن نسميه «الهوس المؤسس» (الذي يركب كلّ السياسيين أمام أي وسيلة إعلاميّة) بغية تقديم، أو هو إغراء «المتلقّي» بما يمكن أن نطلق عليه تسمية «اللقمة السائغة»، التي تحدث «لذّة» (لدى المتلقّي) وكذلك (وهذا الأهمّ) تمرّر رسالة السياسي (كما يريدها) إلى هذا «المتلقّي»…
من ثمّة لا يمثّل الكتاب (بالنسبة للقارئ العربي المتمرّس بكتابات الغنوّشي والمتابع لمسيرة الرجل التأليفيّة) «نفعًا» يستقيه من المواقف ذاتها، أي المواقف الدينيّة والقراءات الفقهية أو حتّى «الاجتهادات» التي دأب عليها راشد الغنوشي في مسائل الدين والدنياـ بل تكمن «اللذّة/الحلاوة» (كمثل مباراة كرة المضرب)، في «جماليّة اللعب» أكثر من «النتيجة» (في ذاتها)…
الغنوشي لم يكن (أثناء الحوار) «شيخ دين»، بل كان «فيلسوفًا» قادرًا على مزاوجة أمرين: أفكاره وقناعاته من ناحية (أو ما يعلن منها وما يصرّح به) في مقابل استباق ونسج ما يقبله «العقل في الغرب».
إنّها لعبة يتقنها الرجل في قدرة عجيبة، تكييف الكلام مع حاجة المتلقّي، لكن هذه الحاجة وهذا التلوّن، يجعل من الرجل «صرّاف» (كما صرف العملة بحسب الحريف) أكثر منه ذلك «الشيخ» (التقليدي) أو «الداعية» (كما هو دارج)…
الكتاب طاف على مسائل يمكن أن يتخيّلها أيّ عارف يملك الحدّ الأدنى من الدراية بالشأن الاسلامي الجاري، بين أسئلة «المفاهيم» المرتبطة بالجذر الإيماني، تارة، وبين الإسقاط الإيماني على أرض الواقع والحقيقة اليوميّة، وصولا إلى موقف الرجل وحركته من «الواقع السياسي» (من منظور أسئلة الكاتب/الصحفي). من هنا صرّح الكاتب/الصحفي (هنا تكمن خطورة الكتاب) أنّه جاء «يمتحن» أو بالأحرى (احتراما للنصّ الأصلي من باب الأمانة) «يتثبّت» من مطابقة (تصرّفات هذا) «الإسلام السياسي» مع ما يُروِّج من خطاب، وكذلك (هنا ندخل لعبة العمق الثقافي والحضاري، ومراكز الأبحاث المرتبطة بدوائر الاستخبارات والتي بدورها تمهّد للقرار السياسي) مدى قدرة الغنوشي (الزعيم الديني والقائد السياسي) على «تلطيف» مواقفه أو تلوينها بما يوافق الحدّ الأدنى الغربي، أيّ «عدم الضرر به»، وكذلك مدى الرغبة في الارتفاع إلى المنسوب الأعلى (الغربي دائمًا) «خدمة المصالح الغربيّة».
أهميّة الكتاب «من منظور غربي» أنّه جاء صريحًا فصيحًا لا يحيل على أيّ لبس، بل يمكن أن نقارن هذا الكتاب دون أدنى شكّ بكتاب «العبر» للعلاّمة عبد الرحمن بن خلدون (مع حفظ المقامات طبعًا)، حين تهمّنا (نحن، المنتمون إلى الفضاء العربي والإسلامي) الزاوية، أو الرؤية التي انطلق منها الكاتب، والتي تضمنتها «مقدّمة» الكتاب، وهي الأهمّ (بكثير) بالنسبة لقارئ يملك معرفة دقيقة بالغنوشي وبقدرته على «تمرير فيلٍ من خُرم ابرأة سالمًا»…
منذ الصفحة العاشرة وضمن المقدّمة قبل الدخول في الحوار مع راشد الغنوشي، يبرّر الكاتب/الصحفي كتابه بالفقرة التالية:
«ومع ذلك [يقصد الاسلام المتطرف]، فالسؤال المطروح أمام من يرفع شعار الانتماء إلى «الإسلام السياسي الديمقراطي»، أولئك الذين كما يعلن قادة هذا التيّار، «نريد أن نكون ما يعادل أحزاب الديمقراطيّة المسيحيّة الإيطالية أو الألمانيّة»، عندما يرغبون في تلخيص تعقيدات وضعهم. أمر في حاجة للتثبّت…
جاء الرجل إذًا للتثبّت؛ لكن عندما يعلن أنّه جاء «للتثبّت» من رأس هذا التيّار في تونس، يكون الأمر أشبه أو أقرب إلى «الاستنطاق»، مع ما يحيل ذلك ليس فقط إلى «مسك الحقيقة» (المطلقة) كما عادة الغرب، ضمن عقيدة «المركزيّة» التي يدور حولها (هذا الغرب) منذ الإغريق إلى الآن eurocentrisme، بل إلى ممارسة دور حاكم التحقيق الذي يعتقد في قدرته أو في دوره إلزامًا إحالة «الملفّ» (ملفّ راشد الغنوشي) إلى «المحاكمة» (محاكمة النوايا كما الأفعال) أو على النقيض تمكينه من شهادة «حسن سيرة وسلوك»…
وهو يعلن صراحة في فقرة ثانية من الصفحة العاشرة:
بالإمكان الحكم على البشر انطلاقا من أفعالهم، لكن ما العمل مع ما يدور في رؤوسهم؟ حين نستثني جهاز كشف الكذب، أيسر السبل، في مساءلة فكر سياسي يكمن في لقاء المعني بالأمر من خلال لقاء حرّ. بمقدور هؤلاء الكذب أو التورية. لا يمكن تفادي الأمر. لكن وجب ألاّ نغفل أن أقوال المسؤولين السياسيين، سيطالعها بدءا ناخبوهم، وأنصارهم، الذين بمقدورهم المطالبة بالمحاسبة. الكلام في السياسة فعل ملزم.
انطلاقا من مسيرته السياسيّة، يعتبر الكاتب نفسه مؤهلا معرفيّا وأخلاقيا (عندما يشير إلى امكانيّة «الكذب»)، لممارسة مهمّة التثبّت/الاستجواب/الاستنطاق، بل في طرح الأسئلة التي تهزّ الضمير الغربي كاملا، وأيضا (رجوعًا إلى «الأنا» الغربي الواحد) يدمج «القرار السياسي» ويعتبره شريكًا في ابداء الحكم، سواء من باب «تأكيد التهمة» (ومن ثمّة المحاكمة) أو «تبرئة الذمّة» وتسليم شهادة «حسن سيرة وسلوك». إنه يعلن الأمر صراحة ودون مواربة، ولولا الخجل (ربّما) لاستشهد بضابط جهاز استخبارات. أيضًا في الصفحة الحادي عشر:
أتابع الأحداث التي تهزّ العالم العربي منذ خمسة عشر سنة. عند اندلاع الربيع العربي بدأت في التساؤل. «ما الذي ستفعله هذه الأحزاب الاسلاميّة؟ هل بالإمكان الوثوق بها؟». «آلان جوبي» Alain Juppé، الذي طرحت عليه السؤال بعد أشهر عدّة، كانت له مقاربة بسيطة: «المؤشر الديمقراطي الوحيد الذي وجب اعتماده، هو التثبت من إرجاع الحكم بعد خسارة الانتخابات. هكذا الأمر. الامتحان الحقيقي.
يتجاوز الكاتب/الصحفي دور «المحقّق»، وأهليّة ممارسة التحقيق، إلى البحث عن «مرجعيّة» سياسيّة فاعلة، وذات قدرة على مزاوجة «المصلحة الغربيّة» (الفرنسيّة في هذه الحالة) بالحكم «الأخلاقي» (نسبة إلى الأخلاق الديمقراطيّة). الملهم والمنبع في هذه الحالة هو «آلان جوبي» Alain Juppé. [الذي قضى سنوات عديدة في كندا هاربا من تنفيذ حكم قضائي في حقّه]
يشرع الكاتب/الصحفي/المحقّق في ممارسة دوره، أي في قراءة الواقع وإصدار الأحكام متسلحا بكل هذه الأدوات ومجمل هذه المرجعيات. نقرأ في الصفحة الحادي عشر من الكتاب:
في تونس، النهضة، حزب راشد الغنوشي، أرجع الحكم بعد الانسداد الدستوري وتحشيد الشارع، عاد وتقدّم [إلى الانتخابات من جديد]، وعاود [تجربة] الحوار السياسي والائتلاف الحكومي. امتحان ناجح.
يبدو جيّدا أن هذا الكاتب/الصحفي/المحقّق لم يقم سوى بالإعلان عن تطبيق «نظريّة آلان جوبي» في ما يخصّ حالة النهضة، ومن بعدها تشخيص التجربة، وفي الأخير الخروج بالخلاصة. الجملة الأخيرة في النصّ كانت صريحة، في شكلها، أي أشبه بنطق حكم قضائي.
لكنّ الكاتب/الصحفي/المحقّق لا يقنع بهذه التجربة حين «لم يطمئن قلبه» (بعد)، فكان عليه أن يؤسّس لشكّه في صورة «النظريّة أو الرؤية»، التي ليس فقط يمكن اعتبارها «المنهاج في التثبّت من ديمقراطيّة أي حركة اسلاميّة»، بل (وهنا الخطورة) أنّ «نجاح التجربة الأولى» يعني لزوم الإبقاء على العين مشرّعة، لعلّ هذه الحركات تنكص على عهدها، كما يقول في الصفحة الحادية عشر من الكتاب:
هل يكفي كلّ هذا [ما سبق من تثبت] لإعطاء هذه الحركات صكّا على بياض. لا، طبعًا، لكن ذلك مدعاة للتساؤل بخصوص هذا التيّار الفكري، الذي يشمل راهنًا كامل حوض المتوسّط، من إستنبول إلى تونس، مرورًا بالقاهرة وحلب. الأمر يستأهل المخاطرة بالخطأ. على الأقل، تمّ انجاز التجربة [تجربة التثبّت]. إذا كان الاسلام الديمقراطي لا يعمل، على الكلّ أن يستخلص العبرة من الأمر.
يظهر جليّا من هذه الفقرة أنّ الأصل في هذا «الاسلام الديمقراطي» ليس أن يثبت «نواياه» ويؤكّد عليها، وليس فقط المرور عبر الامتحانات جميعها لنيل «شهادة حسن السيرة والسلوك»، بل هو محلّ «شكّ» دائم وتساؤل مستمرّ، والسقوط ممكن في أوّل عثرة قادمة، ليخلص الكاتب إلى القرار (الأهمّ): «أن يستخلص الكلّ العبرة من السقوط»….
من مقدّمة الكتاب هذه، يبدو جليّا أن الكاتب/الصحفي/المحقّق/القاضي، يقدّم نفسه في صورة «الحقّ» وكذلك «صاحب الحقّ» وأيضًا «المنفّذ لقرار هذا الحقّ»، ما يعني أن على راشد الغنوشي (الممتحَنُ) [بفتح الحاء] أنّ يعدّ درسه ويراجع «خطّة اللعب»، لأنّ اللعبة عند الغنوشي ليست «معرفيّة» (ضمن المعنى المباشر للكلمة)، بل نسج «الحقيقة» التي تتوافق مع هذا الكاتب/الصحفي/المحقّق/القاضي…
مطالعة الكتاب تقدم الإجابة…
30 تعليقات
تعقيبات: discount ugg outlet
تعقيبات: Cartier Love Bracelet
تعقيبات: Van Cleef & Arpels replica
تعقيبات: hermes bracelet replica
تعقيبات: hermes bracelet replica