لا حاجة لأيّ جهة تريد معرفة الوضع السياسي أو الواقع السياسي في تونس، للغوص في غياهب الغرف المغلقة والدهاليز السريّة والمطابخ التي نسمع عنها ولا نراها أو ربّما لن نراها، يكفي فقط، للاطلاع على أسرار هذه البلاد، أن تجلس أمام التلفزيونات وتشاهد أداء الطبقة السياسية أو النخبة المثقفة أو حتّى صفوة الاعلاميين من جميع المراتب.
يخرج الملاحظ العادي قبل الخبير، بأنّ لا أحد من السياسيين (مع استثناءات نادرة جدّا) له وعي حقيقي (ضمن المفهوم العلمي) لما هو جهاز التلفزيون من خطورة، ليس على صورة الشخص المتكلّم ومكانته السياسيّة والاعتباريّة وحتّى الانسانيّة، بل (وهنا الطامّة الكبرى) على صورة الطبقة السياسيّة، ومن ثمّة صورة السياسة وبالتالي صورة البلاد. يبدو جليّا أنّ المتكلّم لا يعي (فوق المنبر الاعلامي) سوى ذاته، ولا يعي سوى اللحظة ولا يعي سوى مصلحته. دراسات عديدة (من زوايا عدّة) يمكن أن تثبت «الانقلاب» على الذات في القول، ليس لرغبة «في الكذب»، بل لأنّ لا تفكير أبعد من «وهم المصلحة في تلك اللحظة»… [مثال السويسي بين شتم الباجي وتقبيل جبهته]..
أيضًا يشعر المرء (أمام المنابر الاعلاميّة)، أنّه في مقهى (حقيقة)، حين لا وعي ولا دراية ولا قدرة (لأغلب روّاد المقاهي) بأنّ لكلّ مقام مقال، وأنّ ليس كلّ شيء يُقال، وليس كلّ شيء يُقال بالفصيح المباشر…
تعيش تونس هذه الايّام حربا كلاميّة حول «حقيقة ما جرى يوم 14 جانفي» وهل تمّ «عرض الأمر على الجنرال رشيد عمّار أمّ لا؟؟؟»…
المسألة أو الزاوية الأولى للمقاربة لا تعني «الحقيقة» في بعدها الساذج أو الطوبائي أو حتّى «الصبياني» [بمنطق من يقول الحقيقة يدخل للجنّة]، بل في ما يمكن أن نسميه «القاسم المشترك لمفهوم الدولة»، أي (خلافًا لما هو دارج في تونس بعد «تهريب بن علي»)، لا دولة في العالم، تقبل بنشر أيّ حقيقة تاريخيّة لا تخدم «المصلحة» أو قد تضرّ بهذه «المصلحة»، فكيف الوصول أن يطالب وزير أوّل سابق في ممارسة حق تكذيب قائد سابق للأركان؟؟؟
تخمّر السياسيون والمثقفون والاعلاميون، وصارت مواقع التواصل الاجتماعي مرتعا لهذه الصولات، بين من صاح بحياة هذا «الجنرال المنقذ»، مقابل من قال «ويل لمن يبحث عن انقلاب»…
نعيش أو تعيش تونس تفتيتًا خطيرًا للأحزاب [مثال النداء والبقية على الطريق] وتفتيتًا للدولة [حين لا وزن للحكومة بل لا وجود لها] وتفتيتًا للمراكز الاعتبارية، حين يرى رئيس الأركان السابق نفسه مجبرًا على التكذيب، ليكون السؤال: هل أخطأ من اتهم الجنرال أم أخطأ الجنرال بالتكذيب، لأنّ الجنرال (عسكري متقاعد ومن الأكيد لا من ينصحه في مجال الاعلام) لا يعلم أنّ التكذيب يمثّل اعترافا بحق الطرف المقابل في الاتهام، والأخطر والأدهى الاعتراف (الضمني) بأنّ التهمة تتراوح بين الصواب والخطأ…
أدهى وأمّر أن يخرج محمّد الغنوّشي الوزير الأوّل لزمن بن علي، لسنوات طالت حتى لم تعد في حاجة إلى الحساب، ليمارس ليس حقّه في الردّ بل «الحقّ في التكذيب»؟؟؟
عند هذا الحدّ لا فائدة من مزيد السرد ولا فائدة خصوصا في نقد الأفراد أو انتقاد التصرّفات، بل السؤال المعرفي أو هو الأكاديمي، حين تحتاج المسألة دراسة علميّة، تتوزّع بين علم النفس السريري وعلم الاجتماع وعلم اجتماع السياسة، لندرك ما هي «العقيدة» التي حملها هذا «الجيل» الذي يتّخذ من الدولة، (أو اتّخذ من الدولة) مقامًا وسلطانًا (أي وسيلة للسلطة)…
أسماء بعينها يتداولها الإعلام، الذي حوّل السياسة وفضائحها إلى «فرجة» في خلط مرضي أو هو مجرم أو مقصود، حين نؤمن بوجود مؤامرة، بين التظاهر بنقل الحقيقة والتحطيم الفعلي لما تبقّى من الدولة…
في أرقى الدمقراطيات وأكثرها شفافيّة، تحتفظ الدولة لخمسين سنة بأسرار لا يمكن الافصاح عنها أو تناولها، على خلاف تونس أين عدّد أحد وزراء الدفاع ما تملك تونس بالتدقيق من معدّات من باب تبيان القدرة الحقيقيّة، همّه في ذلك «الدفاع عن شخصه» أمام هجمات التشكيك ومحاولة النيل من سمعته…
أخطر من الإرهاب الذي يتهدّد البلاد، وبدأت تحوم حوله أسئلة حقيقيّة، ما نراه ونشهده على وسائل الإعلام ليس من تهديم للدولة فقط، بل تهديم كلّ ما هو قائم في البلاد، كأنّ العمليّة مقصودة لذاتها أو هي جزء من ترك الجميع ينهش الجميع، لكي لا يقوى أحد على رفع رأسه والتنفسّ دون إذن ممّن سيقف منقذا ومبشّرا (بما يريده) ونذيرًا (ممّا قد نفعل)…
أخطر ممّا يجدّ ما هو بيّن من تعاظم هذه «النوبة» وارتفاع وتيرتها، فيكون من المعقول غدا أن ينزع أحدهم ملابسه أمام الكاميرا لكي ينفي ما قال الناس أنّها علّة…
أكثر من ذلك، هناك «دولة عميقة» قائمة فعلا، لم تتزحزح كثيرًا أو بما يكفي منذ تهريب بن علي، لكنّها تبقى (كما تركها بن علي) وظيفيّة على مستوى التنفيذ، آلية على مستوى القرار، ومنعدمة لديها قدرة الاستنباط خارج المساحات التي أسّسها صاحبها، ممّا يعني (وهنا الخطير) أنّ موقف هذه «الدولة العميقة» ممّا يجري من «سيرك» مفتوح على كامل الاحتمالات، هو (وهنا المصيبة) تعامل «انتهازي» (ضمن المعنى السياسي للكلمة)، ممّا يعني أنّها (في أفضل الحالات) لاعب ضمن اللاعبين من أجل السلطة ولا يمكن (بأيّ حال) أن تمثّل (في أي صورة) حامي «المعنى الحقيقي للدولة»..
غاب الوعي بالدولة وغاب الوعي بالأخلاق السياسيّة في حدّها الأدنى، وغاب الوعي بصورة الذات في بعدها الشامل، وغاب الوعي بالتاريخ، لأنّ الأجيال القادمة على مرّ العصور لن تنسى ولن تغفر هذا «السيرك» الذي ليس فيه سوى التهريج المسخ…
106 تعليقات
تعقيبات: Canada Goose Jas
تعقيبات: mammut online store
تعقيبات: Cartier Love Necklace Replica
تعقيبات: hermes bracelet replica
تعقيبات: cartier love bracelet replica