لا يمكن الحديث في سورية سوى عن «الواقع» الذي يمليه السلاح على الأرض ومن ثمّة تأتي (ما يسمّى) «المفاوضات» مجرّد سعي لنقل هذه الموازين من «الواقع الحربي» إلى «الفضاء السلمي»، لذلك علينا التسليم بأمرين:
أوّلا: لا أحد ينتظر أو يحلم أن يستطيع «مسار المفاوضات» صنع «السلام» بمعزل عن «الواقع العسكري».
ثانيا: لا أحد من الأطراف على الأرض، سيسلّم في ما يراه حقّه، قبل أن يستنفذ جميع الوسائل الممكنة أو التي يراها قادرة على تحقيق أيّ «تقدّم» أو (حتّى) «تحسين» (طفيف) في شروط التفاوض…
كذلك وجب النظر إلى ما يجري في سورية (أي الأعمال العسكريّة) في صورة «الملخّص» الذي يختصر صراعات مباشرة وعلنيّة بين فرقاء يقاتلون بعضهم البعض بالوكالة على أرض هذه الدولة، في حين أنّهم في مناطق أخرى يفضلون الصراعات من نمط آخر، أو حتّى «التعاون»، كمثل ما هو الحال بين كلّ من إيران وتركية، حين يتصارعان على الأرض السوريّة، وتأتي العلاقات الاقتصاديّة بينهما في أفضل حال….
التقدّم التي تحصّله قوّات النظام السوري حاليا، والتراجع أو هو تقهقر الجماعات المسلّحة فرادى أو جماعة، يأتي لينسف «مفاوضات جنيف» مرّة واحدة، أو ينسف هذه المفاوضات في نسختها السابقة، أيّ أنّ النظام يرى أنّ من حقّه التأسيس لمفاوضات تأخذ بعين الاعتبار انتصاراته على الأرض، كما مثلت «جنيف 1» (حينها) تقدّم «المعارضة» (أو هي المعارضات) على الأرض…
ثبت بما لا يدع للشكّ أنّ لروسية وقوّاتها الدور الأهمّ في هذه الانتصارات، سواء على مستوى توفير الأسلحة كيفًا وكمّا أو توفير الغطاء الجوّي والمعلومات من الجوّ، ممّا مكّن جيش النظام ومن معه من تحقيق هذه الانتصارات التي نراها.
أهميّة هذه الانتصارات تتجاوز مساحة الأرض التي استردّها هذا الجيش، بل تكمن في القدرة على هزم جماعات مسلّحة تجد من «الظهر» التركي دعمًا كبيرًا، حين لا تبعد المناطق الذي «حرّرها» الجيش سوى مسافات قليلة عن الحدود مع تركية، ممّا يعني أنّ القوّات السوريّة، ستجد نفسها أو هي الآن على تماس مباشر وصريح مع القوّات التركيّة، علما وأنّ أنقرة عبّرت عديد المرّات عن رغبتها في إنشاء «منطقة عازلة» (داخل التراب السوري)، تكون ممنوعة عن القوّات السوريّة، وتشّكل «قاعدة الانطلاق» نحو «تحرير بقيّة سورية»…
الأخبار القادمة من الشام تنذر بتغيّرات كبرى على الأرض، حين يأتي أيّ تقليص لنفوذ أيّ جماعة عن أيّ مساحة جغرافيّة بمثابة ضربة مباشرة بل هي طعنة للجهة الراعية، سواء تركية أو السعوديّة أو قطر، وباقي الدول الغربيّة التي توفّر الغطاء المخابراتي والخبرة عن بعد…
توسّع حيز الدولة وتقلّص نفوذ الجماعات خاصّة في المناطق الشماليّة ينذر بتقليص نفوذ تركية، التي ستكون مجبرة، أو هي مجبرة الآن بين خيارين:
أوّلا: التعاطي مع الواقع من منظار «المقبول» والبدء في ترتيب الأوضاع من خلال «التفاهم» مع دمشق ومع موسكو،
ثانيا: الذهاب نحو المواجهة وما يعنيه ذلك من توريط مباشر وصريح وعلني للحلف الأطلسي، حين تأتي تركيا أحد أهمّ الأعضاء في هذا الحلف، خاصّة وأنّ وزارة الدفاع الروسية حذّرت من «الاستعداد العسكري التركي»، ممّا يعني أنّ المواجهة ستكون أوسع وأقوى وأشدّ عنفًا ممّا عليه الحال، مع امكانيّة تدخل دول أخرى في مناطق أخرى…
من منطق العقل وجب القول أنّ لا حاجة للنظام السوري ولا سورية (راهنًا) في تصفية الحساب مع نظام أنقرة، علمًا وأنّ الهاجس الأوّل والمباشر والمستعجل لدمشق يكمن في توسيع رقعة السيطرة وتأمين الأوضاع وإعادة تشكيل الدولة، وهذه أمور لا يمكن تأمينها في فترة تقلّ عن خمس سنوات على الأقلّ، ممّا يعني أنّ لدى تركية ودمشق من الوقت (والمصلحة) ما يدفع لتأجيل العتاب والحساب إلى وقت غير معلوم…
أنظمة الخليج من ورائها «النظام العربي الرسمي» (في استثناء للجزائر ولبنان والعراق) سيجد نفسه في حرج كبير وهو الذي راهن على سقوط دمشق وحسب أنّ مقعد سورية من حقّ «المعارضة»…
الأزمة ليست في الوضع الحالي بالنسبة للطيف الذي يعادي النظام، بل في تشرذم هذه الجماعات وعدم التنسيق أو استحالة التنسيق أصلا، حين لا تخضع هذه الجماعات لداعم واحد، بل تنعكس الصراعات الشخصية والسياسيّة بين الرعاة على من يمثلون نفوذهم على الأرض، ممّا يعني أنّ الجولات القادمة لن تشهد تحسّنا (كبيرًا) في أداء (هذه) الجماعات المسلّحة…
حسم الوضع في سورية، سيؤثر تأثيرًا عميقًا في كامل الفضاء العربي، ليس فقط على المستويين السياسي والعسكري، بل (وهنا الخطورة والسؤال) مستقبل «الاسلام السياسي» حين راهن هذا الطيف بأكمله على اسقاط النظام وساهم وساعد وعاضد من أراد اسقاط النظام…
الجماهير في هذه الدول العربيّة والاسلاميّة تحتاج إلى «فائز» تعوّض به انكسارات الواقع، وليس لها دراية أو معرفة أو حاجة في (عمق) الأبعاد الأيديولوجيّة أو القراءات الدينيّة أو حتّى الفقهيّة والمذهبيّة، ممّا يعني أنّ الجهة الفائزة في الشام، ستجمع الرصيد الأكبر من هذه الجماعات، خاصّة وأنّ طيفا من العرب والمسلمين لا يوالون نظام دمشق وكذلك يعتبرون الكثير من الجماعات المسلحة في الشام «جماعات ارهابيّة»، ممّا يعني أن هناك من (ربما) سيحزن لنصر النظام، لكنه لن يبكي هذه الجماعات…
على المستوين الاقليمي والدولي، تنظر القيادات الصهيونيّة والأوروبيّة والأمريكيّة، بقلق كبير إلى هذا التقدّم، حين تعتبره نصرًا للنظام، لكنّه نصر لروسية ومن الاكيد لإيران، على مستوى أوسع من الحرب العسكريّة على الميدان، لتكون سورية أو هي تشكّل مربّع الملك في رقعة الشطرنج العالميّة…