لم تسمع الجموع في تونس بأيّ أمر، أو بالأحرى لا تستفيق (كحال أغلبية الدهماء أو الرعاع في العالم) للشيء إلاّ حين تثيره الصحافة وتتلقفه مواقع التواصل الاجتماعي. ذلك حال تونس والتونسيين مع «الصكوك الاسلاميّة»…
استفاق الجميع فجأة (من قيادات تاريخيّة، ونخب سياسيّة وعموم الشعب الكريم) على أنّ «الصكوك الاسلاميّة» (قد) رهنت «ملعب رادس» ومن ثمّة (قد) تستحوذ عليه، ممّا يجعل هذه «الصكوك الإسلاميّة» تهدّد (وهنا التأكيد) رموز السيادة (الكرويّة) في تونس!!!
أيّ غباء هذا، بل أي سذاجة هذه، التي ضربت النخب قبل العامّة، كأنّنا أمام حفل تخمّر لا ينقصه سوى جوق «البنادر» لينطلق هذا الشعب (الذي بلغ درجة من الوعي) في أكل «ظلف الهندي» أو السير فوق شظايا الزجاج!!!!
المثقف (العادي) الذي يراجع أبجديات التعامل المصرفي في العالم (من خلال المواقع الاخباريّة لا غير)، يدري ويعلم ويدرك وعلى يقين، سواء تعلّق الامر بالصكوك الإسلاميّة أو بالربا الأشدّ فحشا في العالم، أنّ هذا الطرف أو ذاك يختار فعلا ويدرس الحالة قبل أن يمدّ دولارًا أو دينارًا واحدًا، وكذلك يدرس ويمحصّ ويفحص ويحلّل المشروع من جميع جوانبه ليضمن الربح الأوفر ويستبعد الخسارة مهما كان شأنها. الاختلاف (فقط وحصرًا) في شكل التعامل وليس في غاية الربح ذاتها أو في منطق ضمان هذا الربح (أو عدم الخسارة).
صوّرت الجموع (المثقفة أو هي النخب) «الصكوك الاسلاميّة» (أو بالأحرى الجهات الواقفة وراءها) في صورة «آكل الجيف» الذي يفرك يديه في انتظار وفاة الحيوان، كأنّ أشكال التمويل الأخرى (مهما كانت الديانة) تنثر الدنانير الذهبيّة على قارعة الطريق…
نحن أمام حال من الغباء المستشري، بين المنابر الاعلاميّة والمنتديات الاجتماعيّة، أو (وهنا الخطورة) نحن أمام حمل لضرب هذا الشكل من التمويل (لأسباب أيديولوجية) أو (الأخطر من الخطورة) استبعاد هذا «المنافس من السوق التونسيّة لتكون مفتوحة حصرًا أمام أشكال أخرى
وجب التأكيد أوّلا، أنّه إذا استثنينا الهبات والعطايا والمساعدات (التي تحمل بالتأكيد ثمنًا سياسيا) لا أحد في الدنيا يغامر بماله من أجل سواد عيون التونسيين. ما تسمعونه من كلام السياسيين (الأجانب خاصّة) من إطراء جميل وكلام كمثل العسل، هو كمثل الشعر (العربي)، أيّ أعذبه أكذبه…
هناك من سيخرج أو هو ينادي بالخروج للتظاهر تحت شعار :«خبز وما والصكوك الاسلاميّة لا»، ليرجع هذا «الشعب الكريم» إلى بيته فرحا مسرورًا، لكنّه سيكتشف بعد أشهر أنّ الماء الذي يصل إلى بيته أتاه بتمويل من صكوك اسلاميّة كما الخبز الذي يتناوله.
نعيش فعلا حالة من المرض الخطير والكذب الفاضح، وتزداد الخطورة عندما يعني الأمر «النخب» (الفكريّة) أو «القيادات» (السياسيّة)… نخب على انقطاع مرضي وانفصام خطير مع الواقع، أو هي (وهنا الأخطر) بوق دعاية وآلة (على جهل بمقابل) لجهات سياسيّة (داخليّة أو خارجيّة) تلعب في الخفاء (أي المافيات)، وهنا أصل المشكل ولبّ القضيّة…
لا ديمقراطيّة (ولا هم يحزنون) في دولة يبلغ فيها فارق الوعي بين من يديرون الأمور حقيقة (في العلن أو في الخفاء) وبين العمق الشعبي هذه الدرجة من التلاعب ومن العمل على الالهاء أو إضاعة الوقت أو الشيطنة المقرفة أو التقديس المبتذل.
المسؤول العارف (بالحدّ الأدنى) من أبجديات التصرّف المالي (في تونس راهنًا)، أمام السطحيّة السياسية من ارتجال وحروب من أجل السلطة داخل الأحزاب كما خارجها، يعلم ويدرك أنّ المال (أوّلا) لا لون ولا طعم ولا راحة له (حين وجب توفير الحاجيات الأساسيّة مهما كان الثمن)، حين يعلم ويدرك وهو على يقين القطع أنّ الجموع التي خرجت تنادي (في غضب شديد) شعارات من نمط :«خبز وماء وبن علي لا»، قد تخرج للترحيب بصانع التغيير وبطل التحوّل، حين تمّس الحاجة أبسط حقوقها في العيش، فما بالك بالصكوك الاسلاميّة أو حتّى صكوك الكفر والردّة والزندقة!!!!
من الأكيد وما لا يقبل الجدل، أنّ البلاد التونسيّة تعيش على مستوى السياسة ارتجالا قاتلا، بل تغيب النظرة الاستشرافيّة، وأنّ أيّ أفق (بمفهوم النشرة السياسيّة) لا يزيد عن أيّام (في أقصى الحالات)، ومن الأكيد أنّ الاقتراض واللجوء إلى التداين، يمثل رهنًا للبلاد مهما كانت الطريقة «إسلاميّة» أو «ملحدة»، لكنّ الواجب (السياسي على الأقلّ) يحتّم الحدّ الأدنى من القراءة (الموضوعيّة) والخروج بالمسائل الاستراتيجية عن أيّ جدل شعبوي مقيت واستغلا رخيص لعواطف الناس.
لسائل أن يسأل لماذا ربط ملعب رادس (بالذات) بهذه الصكوك او غيرها؟ لأنّ الرياضة أصبحت (ضمن حلقات الانتماء) الأهمّ، بل الأكثر وثوقًا من الحلقات الأخرى، ومن ثمّة يأتي المساس بأيّ «مقدّس رياضي»، وخصوصا «كرة القدم»، وعلى وجه الأخص «المعبد الأوّل» لهذه اللعبة الشعبيّة في تونس، من أنكر الكبائر ومن أنكى أشكال الاعتداء على «المقدّسات»…
ليس المسألة أن نختار الصكوك الاسلاميّة أو نلجأ إلى «الربا المتداول»، بل الأزمة في غياب خيارات استراتيجيّة أوّلا، وثانيا في الهروب بالمسألة من الحدّ الأدنى من القراءة العقلانيّة والعاقلة، إلى شعبويّة مقيتة تدغدغ أحاسيس شعب (كمثل جميع الشعوب العربيّة) يحسّ بالانكسار وبمرارة في الحلق تزداد يومًا بعد يوم…
الخطر ليس في ما نرى من أحداث، أي ما هو قائم من قراءة لهذا الرهن أو مسألة الصكوك (مهما كانت الديانة) الخطر الداهم في النزول بالممارسة السياسيّة إلى درك أسفل لم تبلغه من قبل، لنجد أنّنا فقدنا العقل الذي هو أغلى ما نكسب…
مقال شاف ضاف