حين نتقيّد بالصورة الظاهرة على الشاشات، ونبقى في مستوى ما تتداوله وسائل الاعلام والمواقع الالكترونيّة، يتخيّل المرء ذاته أمام «إليس في بلاد العجائب» أو «أميرة الثلج والأقزام السبعة»… الطوباوّية ذاتها، اتكال كامل على النوايا المستعرة حبّا وطهارة، وكذلك تجاوز لكلّ «الشوائب» التي (قد وأقول قد) تفسد أو حتّى تشوّه جماليّة المشهد في بعده «الأخلاقي» أساسًا…
إنّها، أو عدنا إلى زمن بن علي: صناعة «السياسة» من خلال «النوايا» المستندة إلى «الصورة» (المصطنعة)، مع تأكيد في الحالتين (الراهنة والسابقة) على الرغبة «المرضيّة» في أن تعوّض هذه «الصورة الاعلاميّة» الواقع وتلغيه، لذلك ركّز نظام بن علي على هذه الصناعة لأنّها تمثّل الأمل الوحيد والمخرج الأوحد لتقديم «حقيقة» (للخارج قبل الداخل حينها) تلغى الواقع النقيض لواقع الصورة (المصطنعة)، في حين أنّ الواقع الحالي يعيش «مأزقًا حقيقيّا» على مستوى «الجدليّة السياسيّة» من انعدام (شبه كامل للرؤية) وتعدّد «جبهات القتال»، علمًا أنّ بعضها «حروبًا أهليّة»، دون أن ننسى بروز «المافيات» في صورة المعطى الطبيعي، وختامًا بانعدام ثقة الجميع في الجميع، وهو الأمر الأخطر.
جاءت صورة لقاء الباجي قائد السبسي مع «فراخ النهضة» شبيهة بطهر المسيحيين الأوائل في الخروج بالواقع «المقرف والمرير» إلى صورة أقرب ما تكون إلى صورة المسيح عيسى بن مريم عليه وعليها السلام مجتمعا بحوارييه أثناء «العشاء الأخير»…
في العادة، وفي الدول التي تمارس «السياسة» (كما يجب أن تُمارس السياسة) تأتي «الصورة» (السياسة) متجذرة في الواقع السياسي، بل هي اسقاط له من الواقع الملموس إلى القراءة الصحفيّة، حين وجب أن يكون رابط (أقوى ما يكون) بين هذا الوقع (الملموس فعلا وحقيقة) وهذه الصورة (التي نشاهدها على الشاشات والصحف والمواقع الإلكترونية)، إلا في تونس ومثيلها من الدول، حيث تمثّل الصورة الصحفيّة بديلا عن الصورة الحقيقيّة، بل هي النقيض والالغاء.
إنّنا أمام حال (كما زمن بن علي) من رغبة مرضيّة في صنع وعي مزيّف وقناعات مفتعلة، مع فارق هامّ وبون شاسع، يفصل «المصانع الحاليّة» عن مثيلاتها زمن بن علي. كان «صانع التغيير» الماسك الأوحد والمقرّر الوحيد، لكامل منظومة صناعة «الصورة البديلة»، سواء على مستوى الفكر أو القرار أو التنفيذ، في حين نعيش الآن تعدّدا لطرائق الفكر وتكاثر للقرارات وتوالد لأجهزة التنفيذ، حتّى أنّنا نرى ونشهد بالعين المجرّد (داخل النهضة وداخل النداء، الكيانان الأكبر في البلاد) أفكارا متناقضة وقرارات متضاربة، بل عدم تجانس «مرضي» (بحسب كلّ حالة) على مستوى التنفيذ.
من دلائل الأزمة على مستوى السيكولوجي، أن قلبنا السؤال من «ما هي دوافع هذا اللقاء؟»، أو ما هي «تبعات اللقاء؟» إلى «إلى ماذا يرمز هذا اللقاء؟»، أي انتقلنا ـ وهنا الخطورة ـ من أولويّة الحقيقة إلى جدليّة التأويل، من «أصل الصورة» إلى «اسقاط الصورة» (التأويلي بالضرورة)، أيّ أّننا (بالمفهوم الطبي) لا نشخّص المرض، بل نتبارى حدّ التناقض في تأويل صور الأشعّة قبل التقاطها…
نلخص السّؤال ونبسطه: ما هي دوافع لقاء الباجي قائد السبسي، هذا الرئيس الذي يردّد بالتأكيد مقولة «يا ليت الشباب يعود يومًا»، بكهول (أغلبهم) يتظاهرون بأنّهم من فئة «الشباب»، حين نعتمد علميا كامل التعاريف المعتمدة في جميع العلوم للفظ «شاب»؟؟؟ دون أن نغفل المغزى من الدعوة لتنظيم مؤتمر «شبابي» يشرف عليه هذا «العجوز» (سنّا)؟؟؟؟
إنّه التأكيد والتأصيل لفكرة «الأبّ الراعي» في بعدها «الإقطاعي» المناقض والنقيض لأدنى قاعدة وأبسط قيم «الجمهوريّة» سواء جاءت دستورًا أو قناعة أو حتّى ممارسة. إنّها التواصل (دون انقطاع) مع «دعابة» رفيق عبد السلام بأنّ عبد العزيز الثعالبي أصل مشترك، ليكون الباجي قائد السبسي (بالتالي) «الوريث الشرعي» و«الأب القائم»…
البحث عن الأبّ أو السعي لاختلاقه من درجات أو هي دلائل «اليتم الفكري» أو هو تأصيل وتثبيت بل «تأبيد» لفكرة «الشيخ الراعي»، حين يجب على «عامل السنّ» المقرون بالسلطة «الاقطاعيّة» أن يحدّد بل أن يكون الفيصل الأوحد في تحديد التراتبيّة السياسيّة….
الناظر في امعان أو الدارس للحالة المدنيّة لهؤلاء «الشباب المزعومين» يجد بالدليل المادي القاطع غير القابل للنقاش، أنّ فيهم من هو في سنّ يفوق سنّ “دايفيد كامرون” عندما تسلّم رئاسة الوزراء من صاحبة الجلالة الملكة. ليبدو المشهد التونسي أقرب بل مطابق على مستوى التشخيص المجرّد، لحال «المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي» حين مثل “تشرننكو” بعمر 74 سنة، «جيل الشباب» في تسلم قيادة البلاد…
كان الملوك في القدم يرسلون أبناءهم إلى بلاطات الملوك الآخرين اعرابًا عن حسن النيّة وتمام الثقة واكتمال العلاقة بين الطرفين. كذلك أراد وقرّر الشيخ راشد الغنوشي أن يرسل «فراخه» إلى «شريكه وجليسه» الشيخ الباجي قائد السبسي، ليذكي فيه نار الزعامة ويلهب في داخله أبوّة صنعها بورقيبة ويحاول الباجي تقمّصها دون نجاح…
المشهد بكامله والمنطق مكتمل، يحيل إلى حالة من الانفصام المرضي والقطيعة السيكولوجيّة على مستويات عدّة:
- مستوى الصورة، من صناعة للوعي عبر النوايا في قطيعة مع الواقع السياسي الذي تعيشه البلاد.
- على مستوى تأكيد أو تأبيد، منطق «الشيخ الراعي» في استبطان لدونيّة الشباب وعدم امتلاكم «فحولة [سياسيّة] مكتملة»، في وجود «الفحلين» الأكبر، (على الأقل)…
- على مستوى الخطاب، حين وجب على «الشباب الزائر» أن يتقيّد بتعليمات «الشيخ»، أو يستلهم من خطاباته، كما تفعل كلّ أمّ مع أطفالها قبل أن تصحبهم معها إلى منزل أحد الأقارب أو الجيران، من ضرورة «الجلوس في أدب دون حراك» و«عدم المبادرة بالحديث» وكذلك «عدم طلب أيّ نوع من المشروبات أو المرطبات»، أي بالملخص المفيد (كما هي الجلسة مع الباجي) أن يكون «الطفل» أو يكوّن «صورة» تترك أثرًا ممتازًا تتناقله النسوة (أي الإعلام) في اعجاب (شديد إن لزم الأمر)، دون أدنى تفكير أو اهتمام بمدى تطابق الصورة (المستحدثة) مع العمق (الحقيقي) للشاب/الطفل.
لسائل أن يطرح السؤال المعرفي الذي أسّس من خلاله علماء الاتصال ومن وضعوا أسس قراءة الصورة: ما الذي وقر في القلوب من هذا اللقاء بين «الرئيس الشاب» (بالمديح) و«شباب» (جاوزا سنّ الشباب أو يكادون)؟؟؟
السؤال معرفيّ بحت، ويحيل أو يتطلّب قراءة أكاديمّية لا تمتلكها النهضة وتعوز الرئاسة (أو الرئيس الشرفي للنداء)، حين جاءت حرارة اللحظة ووهم «الآن وهنا» أقرب إلى حكاية «الملك العاري» الذي احترف «الطبل» (الأجوف) مع إضافة [لضروريات المشهد] «فراخ النهضة» يرقصون….