وجب الاعتراف بل الاقرار دون أدنى لبس بأنّ فرنسا تعرضت لهجمات ارهابيّة جبانة، لا يمكن سوى إدانتها وإدانة من يقف وراءها، وجميع من شارك في التخطيط والامداد والتنفيذ، وكذلك وجب (من باب انساني مطلق) التضامن مع ضحايا الارهاب وأهالي الضحايا وكذلك الجرحى والمصابين في فرنسا، وفي كلّ مناطق العالم، حين يأتي الإرهاب في وجه واحد. وجه يحمل البشاعة ويحيل على الدمار والفوضى…
لكن وجب القول أنّ في الحالة الفرنسيّة، هناك من (عن حسن نيّة أو سوء نيّة وتخطيط) يريد أن يتجاوز بالأزمة مصائب فرنسا التاريخيّة وجرائمها الراهنة. علينا أن نضع فاصلا ونقيم جدارًا مانعًا ومنيعًا بين التعاطف (الواجب والانساني) مع الضحايا وأهاليهم والجرحى من ناحية ووجوب أن نقف من تاريخ فرنسا (الاستعماري خصوصا) موقف النقد والمحاسبة، حين لا يزال في فرنسا (ساركوزي على سبيل المثال) من يتحدّث ويحدّث الناس عن «فضائل الاستعمار»…
من باب الحريّة الشخصيّة والخيارات الذاتيّة من حقّ من يشاء أن يقرّر شكل تعاطفه مع فرنسا أو حتّى الانتماء إليها، لا أحد يملك القدرة على مساءلة أي كان حول «من يحبّ» (من الأوطان) وما هي دوافعه لذلك، لكن المصيبة (وهي فعلا مصيبة) أن تتحوّل المناسبة إلى فرصة «غسيل للتاريخ» (على شاكلة «غسيل الأموال») من كلّ الجرائم التاريخيّة…
بعض من ينتمون إلى الفضاء العربي الإسلامي، خصوصًا ممّن يحملون الجنسيات الأوروبيّة والفرنسيّة على وجه التحديد، يعبّرون عن «محبّة» (فائضة) لفرنسا من باب «درء الاتهام»، وكأنّ المعركة هي بين «فرنسا الغربيّة المسيحيّة» في مقابل طرف «مسلم وعربيّ»…
وجب الرجوع إلى التاريخ وقراءة هذا التاريخ وفق الأخلاق ذاتها، لنجد ونتيقّن أن «الفضاء العربي الإسلامي» لا يحمل ولا يحيل على القتل والدماء أكثر من «الفضاء الغربي المسيحي». إلى الماضي القريب، يوغوسلافيا ومذابحها التي صاحبها صمت أوروبي مريب، وما يجري في فلسطين تحت مسمع العالم الغربي وأنظاره، يثبت لنا أنّ «عدالة الغرب» (على مستوى الحكومات والقيادات السياسيّة) كذبة لا يصدقها سوى الأحمق والساذج والغبيّ…
فقط علينا الاعتراف بعمق شعبي وجماهيري غربي بدأ في الاستفاقة والنظر إلى القضايا العادلة من منظار انساني بحت، بعيدًا عن «مركزيّة الغرب» وثقافة «الأنا المسيطرة» هناك. ارتفاع عدد المتظاهرين من أجل فلسطين وما يتفرّع عنها من قضايا انسانيّة أليمة، يثبت بما لا يدع للشكّ أن من الغباء العربي وسذاجة المسلمين النظر إلى الغرب في صورة «الملّة الواحدة»…
المسألة أخلاقيّة وذات بعد انساني بالأساس، هناك ممّن ينتمون إلى «الفضاء العربي الاسلامي» من هم أشدّ وبالا على القضايا العادلة وعلى قضيّة فلسطين من المتظاهرين الصادقين في جنوب القارّة الأمريكيّة، وهناك في السويد والدانمارك من يبكي حرقة من أجل أبناء غزّة في حين تعرض «قنوات العهر» العربي المهرجانات الغنائيّة ومسابقات الرقص والتباري في الطبخ…
مصيبة الإرهاب الأولى تكمن في الضحايا والمصابين وما يخلّف ذلك من ألم لدى الأهالي وعموم الناس من البلد والمتعاطفين، لكن المصيبة الأكبر تكمن في «الاستغلال الحقير» لهذا الإرهاب، لتبييض ما تفعله هذه الدولة أو تلك…
لا يمكن أن يخطر ببال قارئ عادي للمشهد الإعلامي والسياسي في الغرب، أنّ هذه العمليات (أي عمليّات «غسيل التاريخ») تتمّ دون دراسة مسبّقة وإعداد وتقدير. تحرّكت آلات الإعلام ولوبيات الصحافة زمن العملية الإرهابيّة على مقرّ صحيفة «شارلي هبدو» ليقول العالم «أنا شارلي».
هذا الانتماء (وهنا خطورة العمليّة الجهنميّة) لا يعني التماثل مع الضحيّة، بل «التضامن» مع أفعال «المطبوعة» وخياراتها التحريريّة. هو الابتزاز عينه: من لا يقول «أنا شارلي» يصير «نصيرًا للإرهاب»…
المواقف من الإرهاب لا يمكن أن تكون بمثل «عقليّة كرة القدم»، أي أن تناصر هذا الفريق أو ذاك، مع استحالة مناصرين الفريقين في الآن ذاته أو استحالة كذلك الوقوف على الحياد…
من حقّ المرء ألاّ يعجبه ما تقدّمه هذه المطبوعة الساخرة، بل أن يرى بوجوب تدخّل القانون لمنعها من المساس بالمقدّسات، لكن دون الوصول إلى أيّ تبرير للعنف مهما كان وبأيّ صفة كانت ومن قبل أيّ كان، تحت أيّ تعلّة كانت…
بقاء المسألة (في علاقة بهذه المطبوعة على سبيل المثال) ضمن ما تكفله القوانين الفرنسيّة وما تضمنه الأخلاق وما يقرّه الإعلان العالمي لحقوق الانسان هو المرجع والأساس…
من يخيّر من «مناصرة الإرهاب» من جهة و«تبييض التاريخ» مجرم لا يقلّ قذارة أو دناءة عن الإرهابيين…
أيضًا وجب الإشارة إلى أنّ الدمّ الفرنسي ليس أغلى من دماء الشعوب الأخرى وليس أعزّ على أهله من أهالي الضحايا عبر العالم. ضحايا بالجملة في مالي وبالتفصيل في فلسطين والعالم صامت لا يعرف الحديث ولا الإدانة إلاّ عندما يتعلّق الأمر بدماء «الغربيين» عمومًا…
إنّه المرض كذلك، مرض الغرب (المقصود هنا الفكر الحاكم) بعقدة «المركز» التي عاش بها ولا يزال منذ الإغريق، ومرض العرب والمسلمين ومن شابههم من الشعوب المقهورة، حين يتظاهرون بالتضامن مع الأوروبيين أكثر من الأوروبيين أنفسهم ويناسون بعضهم…
إنّها عقدة الذنب والشعور (المسبّق) بالجريمة، عبّر عنها الكثيرون، حين يصرّون دون سابق اتّهام أنّهم «لا علاقة لهم بالإرهاب»… لماذا لم يقدّم ساركوزي اعتذاراته للشعوب التي أباد الاستعمار الفرنسي نصفها، مثل الجزائر مثلا؟؟؟ لماذا تسكت فرنسا (الرسميّة) أمام ما نراه من تمجيد للاستعمار، وتجرّم مجرّد التشكيك (حتّى وإن جاء علميّا) في (ما يسمّى) «المحرقة»؟؟؟ لماذا لا يذكرون من هذه «المحرقة» سوى دماء اليهود وينسون ويتجاهلون أضعاف أضعافهم من الروس مثلا…
إنّه التلاعب بالتاريخ، سواء في العصور السابقة أو ما نعيش: رغبة في انتهاز التاريخ من أجل إعادة كتابة هذا التاريخ بصناعة وعي جديد…
الحلّ يكمن في التشبّث بالأخلاق وجعل جميع الجرائم ضدّ الانسانيّة في مرتبة واحدة..