فجأة سال الدم، وانفصل الرأس عن بقيّة الجسد، فكان أن طفت هذه الأرض على جغرافيا، لم تكن قائمة سوى في خرائط منسيّة، ومن عمق تاريخ كان على حواشي الذاكرة، أو هو ما نذكره أحيانًا، حين نتحدّث عن «الفقر» ونذكر «التخلّف» ونستشهد بما هو في «هؤلاء الأخرين»، الذين هم «معنا» (على هذه الأرض) وفي الآن ذاته ليسوا «منّا»…
كان لزامًا هذا الطقس الهمجي ليتحوّل «دوّار السلاطنيّة» من مكان لا تذكره الخرائط إلى «قلب تونس»، بل إلى هذا «الفائض» من كلّ «قيم التضامن والمؤازرة والأخوّة….» وهلّم جرّا من العبارات المماثلة…
ثبت بما لا يدع للشكّ أنّ علّة تلك المنطقة الجرداء، القائمة خارج التاريخ وأسفل الجغرافيا، هما الجهل والفقر، وثابت بما لا يدع للشكّ أنّ ما يفصل هذه المنطقة الجرداء عن العاصمة أكثر من مسافة الجغرافيا، وأعمق من الفترة التي قطعتها الرحلة…
فقر مدقع تعيشه هذه المساحة التي تتناثر فيها أشباه أكواخ، وعوز أشدّ من الشدّة ذاتها. أطفال يذرعون الطرق الوعرة حفاة وشبه عراة، وشيوخ يرقبون الغرباء الوافدين بعين تقطع حاجة وعوزًا، خاصّة وأن «كرم الوافدين» جاء أشبه بالاعتذار أو هي الحاجة في من وفدوا أن يفرغوا ما في أنفسهم من «فائض العطف والمحبّة والإحسان»… وهلمّ جرّا من العبارات المماثلة…
امرأة تشكو العوز وتشكو الحاجة، وتشكو «الارهاب»، بل تشكو حضوره بالغياب، أي تلك الأضواء المتلألئة في الجبال ليلا، حين تنسحب قوّات الجيش منذ الخامسة مساء لتترك الجميع تحت رحمة «الخفاء» الذي يزن على هذه الجبال والوديان، كمثل الرصاص على القلوب.
إضافة إلى الجهل المستشري والحاجة المتفشية، جاء الخوف ليزن، بل ليحطّم المعادلة ويجعل الجميع لا يرضى بحاله: امرأة تطلب الرحيل بمعيّة زوجها الماكث في البيت دون شغل، دفاعًا عن شرف زوجته ممّا قالت أنّها رغبة من الارهابيين في خطف النساء لطهي الخبز وغسل الثياب، وربّما لأشياء أخرى خجلت من ذكرها، وكذلك دفاعًا على أبناء حفاة وشبه عراة، عافوا المدرسة وانقطعوا عنها، حين مثّلت المدرسة ولا تزال في تلك الربوع الرافعة الاجتماعيّة الوحيدة، القادرة على التراوح بالفرد من حارس في احدى الأماكن، إلى طالب (أو طالبة) في الجامعة، مع انفتاح الحلم على فضاءات أخرى وعوالم جديدة.
محمّد شقيق الراعي الذبيح، يطالب بثكنات في المنطقة، يعمل بها أبناء المنطقة، الأقدر بطبيعة الحال على محاربة الإرهاب، والأعرف بالدروب وخبايا الوديان وخفايا الجبال الوعرة.
هو يطالب بالسلاح للدفاع وتلك المرأة تطالب بالهرب: يشتركان في التعلّق بالحياة والتشبث بها، ويشتركان في رفض المنظومة القائمة. أي منظومة لا تضمن الأمن ولا توفّر الأمان.
هي تريد أن تذهب إلى الأمن بالابتعاد عن المنطقة، وهو يريد أن يأتي الأمن إليه بحدّ السلاح.
بين سياسة افراغ المنطقة من أهلها الفقراء والمعدمين ورغبة هؤلاء في حيازة الأسلحة دفاعًا عن أنفسهم، يبقى خيار التنمية والاستثمار لغرس هؤلاء في أراضيهم وتفادي افراغ المنطقة وألاّ تكون «صحراء» يرتع فيها الإرهاب، تجد الدولة نفسها أمام مشكلتين:
أوّلا: عدم توفّر الامكانيات بالسرعة المطلوبة وبالكمّ الضروري للخروج بهذه المنطقة من وضع أشبه بالقرون الوسطى، لتلامس حدّ التاريخ الحديث على الأقلّ.
ثانيا: لا يمكن للدولة ولا تقدر هذه الدولة أن تعتبر الدولة «دوّار السلاطنيّة» تلك «المنطقة الخاصّة» التي وجب أن تنال كلّ شيء، في حين يسرح الفقر ويمرح الجهل في غيرها من ربوع البلاد، ليس في الأرياف فقط، بل على أطراف المدن وفي قلبها كذلك…
من زيارات الذين يبحثون عن الخروج بالمنطقة من حيز المشاهدة التلفزيونيّة إلى مقام الواقع الحيّ، المشبع بفائض الحنان والمحبّة والحنان، إلى زيارات المسؤولين بما يحملون من وعود وما يبعثون (أو يريدون بعث) من أمل، يبقى الخطر بل يتأسّس ويتأصل في أن يكون ما كان من «تضامن ومحبّة وفائض الحنان» مجرّد «هوجة»، أيّ مثل العاصفة (الحلوة واللذيذة) التي مرّت ولن تعود، ومن ثمة يطوي الناس بجهلهم وفقرهم وقد زاد عليه الخوف، نسيان يعيدهم إلى قرونهم الوسطى أسفل الجغرافيا المنسيّة…
كذلك، هل وجب (وهنا السؤال) أن تدفع هذه المنطقة (أو غيرها) رأس ابنها «قربان» هذه الزيارات المتهافتة، وأيضًا ليكون قبلة الإعلام وكذلك «مصبّ» الإعانات دون بحث حقيقي عن حاجيات الجهة، كأنّ (أو ربّما هي الحقيقة) لم يأت الناس بحثًا عمّن يحتاجون هذه الإعانات، بل (وهنا الخطورة) مجرّد رغبة في الخروج من حيز التلفزيون إلى عمق «الحقيقة» وثانيا (وهنا المرض) أن يكفروا عن ذنب يحسّون به ولا يعلمون له سببًا ربّما…
مبروك السلطاني ضحيّة مركّبة، لا يختلف عن غيره من سكّان هذه البقعة المنسيّة، سوى أنّه شهد السيف على رقبته، كلّهم خدم الفقر وعبيد الجهل وقد صاروا أسرى الخوف، حين لا يمكن لهذه الزيارات «الوديّة» وعشرات الشاحنات الصغيرة المليئة (حدّ التخمة) بالمقرونة والمشروبات الغازيّة أن ترفع الجهل المتأصل في النفوس والفقر المعشّش في الخلايا، أو تمحو بعضًا من بعض الخوف المتغلغل في ثنايا الوعي…
قالت تلك المرأة: «الجيش يغادر الخامسة مساء، فمن يحمينا يا ترى؟؟؟»
سؤال برسم التاريخ المنسي والجغرافيا المقهورة، والأخلاق المستيقظة منذ لحظات، وأساسًا الدولة التي شغلت الابن مخبرًا….
سؤال، سيذهب كالصدى في قهر هذه الوديان المسحوقة وسفوح الجبال الغائرة في النفوس…
مرارة تحاصر الوطن من كل جانب .
احرق محمد البوعزيزي نفسه قهرا من ظلم ومرارة تلاحقه في كل مكان ، و فجر ثورة أطاحت بدكتاتور حكم بالحديد و النار و تهافت على عشيرته و قريته و مدينته مئات ان لم نقل آلاف تضامنا معه و بوعود خارقة و كلام جميل و رنان لإنقاذهم من الفقر و الخصاصة و الظلم و الى اليوم نفس حال البارحة الفرق الوحيد في تلك المدينة انها بدون محمد البوعزيزي مثله مثل بقية الموتى .
اذا نفس المشهد يعاد من جديد و بنفس السيناريو !!!
مع السلطاني المغدور و عشيرته و قريته و مدينته .
انظر الى كل المدن فبها العديد من السلطاني ، و لكن لنا حكام و نخب لا تزدهر تجارتهم الا بهؤلاء !
مرارة ستبتلع الجميع .
نعم سيذهب كالصّدى
ككلّ مرّة
هل الرجاء لشيء تراه أم لشيء تخافه؟
في الحالتين شكرا، وألف شكر على الاهتمام