تدرك تركيا قبل العالم الذي يحيط بها، أنّ «الانتماء» إلى الحلف الأطلسي لا يجعل منها «الشريك» (الفاعل) ضمن «العائلة الأوروبيّة» وكذلك «الفضاء الغربي» الذي يمثّل القاعدة الروحيّة والأساس الحضاري لهذا الحلف. من ذلك هي في مكان «الشريك» في «المصلحة» عندما يأتي هذا اللفظ غائمًا وعائمًا وغير ثابت، بل شديد التقلّب…
مثلت تركيا، منذ الحرب العالميّة الثانية على الأقلّ، وطوال الحرب الباردة، أحد أهمّ المربّعات الأطلسيّة في مواجهة الاتحاد السوفيتي حينها، واستطاعت الأنظمة الديكتاتوريّة والعسكريّة المتعاقبة على هذا البلد، أن تنال الدعم والرضا والمساندة، بل المساعدات، سواء لحفظ الاستقرار الاجتماعي فيها أو لتأمين ما يكفي من النموّ القادر على تأمين التوازنات فيه.
هل تتعرّض تركيا لمؤامرة حاليا؟
سؤال يطرحه كثيرون ويؤكدون أنّ «الغيرة» بل هو «الحسد» يدفع «الشرق» (أي إيران ومصر وسوريّة)، كما الغرب (أوروبا وأمريكا وروسية) إلى «التوافق» حول ضرورة «هدم» (هذا) «المثال الإسلامي» (الناجح)…
لا شكّ ولا اختلاف، ولا أحد يملك قدرة مناقشة الخطوات الجبّارة التي حقّقتها تركية تحت حكم «العدالة والتنمية» في جميع المجالات. من دولة «عالم ثالث» انتقلت أو هي ارتقت إلى مرتبة وسيطة، أو هي ضمن «نخبة البلدان» المتجهة نحو دخول «نادي الكبار»، وبالتالي، سواء بالأرقام والمؤشرات والاحصائيات، أو بالعين المجرّدة، يمكن الجزم أنّ «العدالة والتنمية» استطاع قطع قرون عدّة في سنوات معدودات.
لكن هذا النجاح الاقتصادي المشهود به، والتحوّل الناتج عنه اجتماعيا، وما نتج عنهما من «استقرار سياسي»، لا يمكن أن يخفي أنّ تركية، صاحبة مشروع «صفر مشاكل» (مع الأجوار) تحوّلت إلى دولة تحيط بها «المشاكل» من كلّ جهة، بل هي «مصاعب» (قد ونقول قد) يكون لها عظيم التأثير على مستقبل هذه الدولة التي صارت تلعب مع الكبار…
تمثّل سورية أهمّ ملفّ ضمن قائمة هذه «الصعوبات» حين راهنت أنقرة ليس فقط على «سقوط نظام الأسد» في أيّام معدودات، بل في أن يرتقي سدّة الحكم في دمشق «حلفاء» (لها، أي الاخوان) يمكنونها من توسيع دائرة «النفوذ» أو هو «الحلم» بالمجد التليد لإمبراطورية كانت في زمانها الأقوى والأشدّ نفوذا في المنطقة والعالم.
تمططت الأسابيع لتصبح أشهرًا، وتوالدت الأشهر لتتحوّل إلى سنوات، وبقي نظام الأسد دون سقوط، بل ها هو يعاود «الهجوم المعاكس»، ويصبح على مقربة من حدود «الدولة التركيّة»، بعد أن كان رجب الطيب أردوغان صدّق (يومًا)، بل أعلن قرب صلاته في مسجد الأمويين في دمشق…
حين تكون الحرب أو بالأحرى ينبني قرار الحرب على موازين القوى، تجد القيادة التركيّة نفسها مع «شركاء» (في الغاية) وليس مع «حلفاء» (في السرّاء والضرّاء)، حين ثبت أن لنظام دمشق حلفاء يعتبرون سقوطه سقوطهم ونجاحه نجاح لهم، سواء حزب الله أو إيران أو العراق أو الشريك الأكبر روسية، على خلاف «من مع أنقرة» الذين يبغون «إسقاط الأسد» أو الأقلّ اضعافه، لكنهم لا يمانعون بل يفرحون في حال صاحب سقوط الأسد أو اضعافه، تراجع في الدور التركي وتحجيم لنفوذها في المنطقة….
يتفق أعداء تركيا وشركاؤها (على الأقل) على ضرورة تحجيم دورها، حين لم يبد الحلف الأطلسي الحماسة الطبيعيّة التي وجب أن يبديها تجاه أحد أهم أعضائها وهو يواجه روسية التي استقدمت إلى الساحل السوري أسلحة استراتيجية تغادر دولة روسيا الاتحاديّة لأوّل مرّة.
كذلك تعلم القيادة التركيّة عدم قدرتها التعويل على «الشريك السعودي» الذي وإن شارك تركية في «العاطفة» وكذلك في «كره أعداء» (مشتركين)، إلا أنّه (أي القرار السعودي) يبقى «بيدقًا» في يد الولايات المتحدة، وعاجز عن تحريك جندي واحد دون «ضوء أخضر» من واشنطن، كما لا يمكنه إرسال رصاصة واحدة إلى «الشريك» (التركي) دون إذن صريح من صاحب الأمر.
العقل العربي المؤمن بنظريّة «المؤامرة» يرى (جزء منه) أنّ تركية في «عين العاصفة» (فعلا)، بل هي أشبه بذلك «الرجل الموجوع»، حين تكالبت الأمم ذات مرّة على «الرجل المريض»، خاصّة وأنّ المواجهة في الشرق الأوسط وشرق المتوسط، لا يمكن بل يستحيل أن تنتهي بما يشبه «التعادل» في كرة القدم، أي بمعنى أن يعاود كلّ بلده، كأنّ شيئا لم يقع…
التوتّر السعودي شديد، من سعي محموم لبناء «حلف اسلامي» إلى «التهديد» (الخطابي) بإرسال قوّات بريّة إلى سورية، يأتي من أشدّ الأعباء على أنقرة، ذات القراءة الأكثر عقلانيّة والقدرة العسكريّة المحترمة والبناء المجتمعي الأكثر تماسكًا…
تعلم تركية كما يعلم آل سعود (ومن حالفهم) أنّ اشتعال الحرب، يعني استباحة أراضي المتعاركين جميعًا، حين لا يمكن للعقل السعودي أن يشترط (وجوبًا) أن تبقى الحرب وتنحصر فوق التراب السوري، كما تعلم تركية، كما يعلم النظام السعودي، أنّ تعلّة «محاربة (ما يسمّى) داعش» لن يقبل بها أيّ طرف، وتعلم تركية كما تعلم القيادة السعوديّة، أنّ الولايات المتحدة والغرب (أي الحلف الأطلسي)، يريد أن تشتعل الحرب فعلا، لكن على شاكلة الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وعلى وقع ما يدور في سورية، أيّ حرب «استنزاف» تطول (أقصى ما يمكن) تفقد فيها روسية جزءا من قواتها، كما تفقد تركية أجزاء من قواتها، وهي تعلم (وهنا المصيبة) أنّ الحلف الأطلسي لن يعطيها السلاح إلاّ بمقدار ما تدوم الحرب، كما دام الوضع في سورية سنوات.
اعجبنى . كلام حكيم وواقعي جداً لأسقف روما ورأس الكنيسة الكاثوليكية
Chi pensa di fare i muri e non fare ponti, non è cristiano