هولاند والأحمرة الأربعة في باريس … درس خصوصي في سقيفة جهنّم

يكفي طالب في العلوم السياسيّة بعض الدروس أو هي عدد محدود من القراءات، ليدرك أنّ صناعة الصورة وتسويقها جزء من صناعة السياسة ذاتها، إن لم تتحوّل أو صارت تحتل رأس الصدارة في تصنيع الواقع السياسي.

من ثمّة يكون الصراع دائمًا داخل الصورة وحولها ضمن «الحروب الحقيقيّة»، ليس فقط من أجل السيطرة وتأمين الواقع السياسي «المصوّر»، بل لأنّ هذا الواقع يمثّل (في الآن ذاته) المجال الأفضل لتصريف التفوّق السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي وحتّى النفساني، وكذلك المجال الأفضل للعودة إلى المجالات المذكورة لتحقيق تفوّق أفضل. أنّها حلقات متداخلة.

الرباعي الحاصل على جائزة نوبل أمام الرئيس الفرنسي

عند قراءة الصورة التي سوّقها قسم الإعلام في قصر الإليزيه عن لقاء الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بالرباعي الراعي للحوار الوطني في تونس، تبدو الصورة أو هي حقيقة تمثّل «مؤدّب صبية» يلقي موعظة على جملة من الأطفال المذنبين وقد أبدوا من فروض الطاعة، وأظهروا من التذلّل، ما يجب أو هو ما يليق بمقام السيّد المؤدّب.

لا تهمّ الخطابات في شكلها الشفاهي ولا تهمّ النوايا المنقوصة والتمنيات الناقصة، حين لا تستطيع هذه الأشكال التعبيريّة والأبعاد الخطابيّة، أن تعوّض أو تلغي الصورة.

كذلك يأتي فضاء الاستقبال على قدر كبير من الأهميّة، هو رواق أو «سقيفة» (بالتعبير العربي)، وهو المكان الأسوأ من جهنّم سواء لدى المعرّي صاحب «رسالة الغفران» أو الإيطالي «دانتي أليغييري» في «الكوميديا الإلاهيةّ»…

سقيفة جهنّم يحتلّها الأنذال وأرذل خلق الله في هذا الأثر أو ذاك.

يذكر الجميع كيف أذلّ فلادمير بوتين المستشارة الألمانيّة أنجيلا مركيل، حين كانت تجالسه في صالون، حين استقدم أحد كلابه وهو (أو بالأحرى جهاز مخابراته ومن بعده القسم الإعلامي) يدرك أنّ هذه «المرأة الحديديّة» تعاني من «فوبيا الكلاب»، فسطع للعالم ذلك الخوف البادي على عينها وقد حاولت هي مسك أعصابها ما استطاعت، لعلمها، بل يقينها، أنّها ليست مجرّد امرأة (حينها) تجلس قبالة رجل، بل المجد الألماني يقابل الصلف الروسي.

حرب كبرياء جرت عبر الصور وأشرطة الفيديو

على مدى الصورة الهابطة علينا من الإليزيه، لا يبدو الكبرياء سوى من جانب الرئيس الفرنسي، الذي كان يرفع يده، وهي (باتفاق جميع مناهج تحليل الإشارات) تدلّ على رغبة في الهيمنة القائمة على استصغار الطرف المقابل.

لماذا استدعى الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند هذا الرباعي التونسي بتعلّة الحصول على جائزة نرويجية، يعلم القاصي قبل الداني سيطرة الولايات المتحدة المطلقة عليها؟

ما الذي أزعج أو استرعى انتباه الطرف الفرنسي في الثالوث: «تونس ـ النرويج ـ الولايات المتّحدة»؟؟؟

يبدو واضحًا أنّ الطرف الفرنسي، أراد أن يبدو في صورة الجائزة أكثر من «التكريم» ذاته، أيّ أن يقول للطرف التونسي وللولايات المتحدة وللعالم (حين نوسّع دوائر قراءة الصورة) أنّه ليس «دخيل» على الجائزة، بل بحكم العلويّة في الصورة، يحتل مكانا أو هي مكانة، تتفوّق على الطرف التونسي بالتأكيد، وكذلك ـ وهذا الأهمّ ـ توازي أو تعادل أو على الأقلّ تقترب من الدولة التي أعطت الجائزة وخصوصًا من الدولة التي تملكها حقّا…

يعود شكل السؤال وأصله إلى «الحوار الوطني» ذاته، واليد الفرنسيّة التي (قد تكون) شاركت في صناعته وصياغته بل والوقوف وراءه وأيضًا الدفع به ليمثّل «الوعاء الأوّل»، بل «الأوحد» للتفاعلات السياسيّة في البلاد، وكذلك صاحب القبّعة الوحيدة والعصا الوحيدة والساحر الوحيد، القادر على الخروج من «أزمة الشرعيّة» في تونس…

الدعوة الفرنسيّة صيحة بل استغاثة أو محاولة استدراك الأمور، والقول والتنبيه بأنّ «الثعلب» (الأمريكي) جاء ليسرق «العنب» (الفرنسي) الذي تمّ زراعته في تونس، بعد أن نال جائزة (نرويجيّة)… اصرار فرنسي على فضح اللصّ الأمريكي الذي أراد الارتقاء بهذا «الحمار/الحوار» (الوطني) إلى مرتبة الخيول المسوّمة القادرة على دخول الاصطبلات «الملكيّة» (النرويجيّة)

إنّها صورة أخرى من الصراع المفتوح على مصراعيه والمفضوح بالتدرّج من أجل السيطرة على سلطة القرار في تونس، خاصّة وهذا البلد، «واقف على رأس عفريت» (كما يقول التعبير الشعبي في تونس) بحكم صراع الجميع ضدّ الجميع، من أحزاب انشطرت ومافيات بدأت تتّخذ شكل نظيراتها الصقليّة في ستّينات القرن الماضي…

أمام تراخي «الدولة التونسيّة» في الاحتفاء بهذه «الجائزة»، وحين لم تتجاوز «الاحتفالات» بعض «الخطابات» (التي على طريقة بن علي وخطاباته) تؤكّد على «تثمين [الجائزة] للمعجزة التونسيّة»، يبدو جليّا أنّ «جائزة السلام» لم تنزل بردًا وسلامًا على رباعي صار رميمًا، وليس في تونس من «أهل البركات» من هو قادر على إحياء الموتى…

هو ذكرى وبقيّة من ذاكرة، وقد جاءت الجائزة أشبه بالاحتفاء بالشهداء ومن فارقوا الحياة، حين رفض الباجي قائد السبسي صراحة أيّ دور لهذا «الراعي» بعد أن سقطت «حكومة الترويكا» التي رأى الدنيا فقط لإسقاطها..

من الصعب على الفرنسيين أن يذكّروا العالم والولايات المتّحدة و«الراعي» أنها هي من كانت «الراعية» فعلا، حين رحل هذا «الحمار» دون رجعة، ومن المستحيل أن تقبل، أو على الأقلّ أن تسلّم فرنسا، بسرقة الولايات المتّحدة جهدها أو بعضه وما ساهمت به باريس خصوصًا مع طيف اليسار، دعمًا ونصيحة في تسيير الأزمة التي تلت اغتيال شكري بلعيد.

إنّها معركة وراثة بل هي إثبات نسب قبل ذلك، أيّ من «صنع الرباعي» ومن «نصّب الراعي»، ليرث «الحمار بما حمل»، لكن لسائل أن يسأل: ما الذي دعا الولايات المتّحدة لإخراج «الحمار من المقبرة» وما هي دوافع فرنسا في «الخوف» من «الثعلب الأمريكي» الذي استثمر في جائزة يريد أن يقبض (كعادة الولايات المتّحدة) في سعيها المحموم والمرضي لقبض ما صرفت وفوقها الربح ما استطاعت إليه سبيلا.

إنه الوضع المتأزّم في تونس، حين صار السباق إلى قرطاج دون قواعد سياسيّة ودون ضوابط أخلاقيّة، بل دون رقيب أو حسيب. معارك مفتوحة داخل النداء، ومافيات لا ينقصها سوى اعلان ذاتها جهرًا بعد أن صارت من الأسرار التي لا يجهلها سوى الأغبياء والسذّج…

كذلك تأتي التحرّكات جميعها، السياسيّة أو الارهابيّة بأيادي المافيا، ذات قدرة أكيدة على خلط الأوراق في الداخل داخل حلبة صراع اقليمي ودولي، حين تأكّد دون مجال للشكّ، أنّ في معارك الكبار، «الأحمرة» وما شابه من مافيات «بلطجيّة» السياسة، لا يتجاوز دورها دور المحارم الورقيّة، وقد وقت شراء أخرى، بعد أن بليت الأولى.