«يا زهرة الحبّ الصافي…»
استوقف الصبية الحادي على حافة الطرقات الوعرة، وراحوا يفتشون بين ثنايا صدره، عن هذا الحبّ الراكد أسفل الاسفلت وما كان من تعاريج الأرصفة. هي زهرة أولى ولها ثانية، على رصيف أغبر لا حبّ فيه ولا هوى، بل سيّارة يعبرون وسيّارات عابرة، بين بتلات زهرة تعشق زهرة وتمسك يدها.
«أيّها الرصيف الأغبر، مرّت الأيّام وتعاقب السنون وأنت تتداول الركبان ومن قذفت به المدائن العامرة، خارج دورة التاريخ ودروب الجغرافيا الغابرة، وما فاض من السياسة حين جاءت الوزارة أبعد من إشبيلية الباقية»، هكذا صدح الحادي معدّلا النبرة، ومؤكّدًا أن الرياح بعثرت البتلات في الاتجاهات الأربعة، وراحت تذر الرحيق على نحل فقد البوصلة، وما كان من بقايا البوم في هذه المدن الغاوية، وما تبقّى من أرصفة لم تراودها الأرجل عند ليل فقد الأقمار البازغة، ولم تعرّج عنده اليرقات حين عزّت الشرنقات المناضلة.
«يا أفق الآفاق القريبة الفاصلة، هل من رحيل إلى براري لا حدود لها، وجبال أعلى من أحلامنا الواطية»، هكذا صاحت زهرة وردّدت وراءها الثانية، حين عزمت الأرصفة على الهجرة إلى بلاد الضباب وأحلام الصبا… بين الفينة والفينة، جاءت الفراشات تؤكّد أنّ الربيع غار، والصيف انزاح والخريف بارح والشتاء فقد الطريق إلى عكّا والناصرة.
«كلّها أرصفة، ولا رصيف اعتلى المنصّة، حين جاءت أوطى من المنصّات العالية»، هكذا ردّ القاضي، حين استفتته الأرجل العابرة، بأنّ الأرصفة ناضلت ذات شتاء أمام الهراوات الهاوية، وقدّمت فلذات حجارتها، أمام شاحنات حملت السلاح الهدّار والكلاب النابحة.
حينها صارت «الثورة» ثرثرة على تخوم الأرصفة وانقلب الريق مدادًا، لمن أرادوا تدوين المرحلة، والبتلات ورقات من ذهب، ذهبت به الأقدام العابرة، بل قالوا أنّهم «الثوّار» ذات شتاؤ، حين عزّت القبلات الدافئة…