«البحر بجانبك والرصيف على شِمالك، ولا مفرّ إلاّ الأمام، حين غاب الوراء».
«الرصيف بجانبك والبحر على يمينك، ولا مفرّ إلاّ التراجع، حين عزّ التقدّم».
بين هذا وذاك جاءت كرامات الدنيا نائحة، تؤرّخ لذاك الذي خيّر الجيش، بين بحر وراءهم وعدوّ ينحر ذاتهم، فكان النصر على تخوم القوارب المحترقة. هكذا هي الدنيا، اتجاهات توثّق المسارات وأشجار على حواشي الطرقات المستقيمة المارقة، وإشارات لها معنى الأوامر وما فات من تواريخ الأمم الغابرة.
«يا بحر، أنت من أزعج الدّمع في عيني، وبثّ الملح في أصقاع الدنيا الحارقة، ورُحتَ تنادي في الأسماك بمن صرف النضال في بنوك الضباب العامرة». أفاق البحر من غفوة عابرة، وراح يتلمّس أسفل الشواطئ الساخنة، علّه يجد بين الأصداف من يقف في وجه الجبابرة، ويزيد في الآذان كلمات عن علاقة ريح الصبا بانقطاع الغيث زمن الأعاصير القاتلة.
هو رواح وفي نسخة أخرى هجرة إلى بحور لا عماد لها، بل هو شعر فقد قوافيه، فخلط الصدر بالعجز علّ الأوزان تعود إلى أصلها، فكانت الخطب العصماء والمعلّقات الساقطة، بل «عكاظ» قالوا وفي رواية أخرى، مسابقات الشعر العامرة.
«يا أيّها العابرون بين الرمال الباقية»، استوقف الشعراء من قال، وأجهزوا على بعض ما فيه من حروف العلّة القاتلة، وراحوا يؤثثون المسافات بما أحصوا من بحور الشعر المتوفّرة. بين من قال أنّ الكلام صعب والشعر مشقّة، ومن راح يراود ما أفلت من عبارات عن احصاء الشعراء، وبين من راوغ أهل الكوفة وتجاوز علماء البصرة، وتاهى في الصحاري يفتّش عن ألفاظ البحار الباقية.
«يا أيّها الذين ذاقوا البحر وشربوا منه نخب المحيطات الراكدة، هل من سلام ممّن راحوا يناضلون وهم يلهجون بمحاسن الأسماك الراقصة؟». عن هذا السؤال جاءت الأجوبة، من عقعق البحر الذي لا ندري لأصله علمًا وما كان من دلافين فقدت شمالها، وما رهن السامعون من علامات، بل قالوا أعمدة لا عماد لها.