البسطاء والأغبياء والسذّج، على مواقع التواصل الاجتماعي يدخلون (أو بالأحرى دخلوا) في معارك سفسطائيّة (ضمن المعنى الفلسفي المباشر) بخصوص «طعم» انتصار حزب «العدالة والتنمية» التركي في الانتخابات التشريعيّة التي انتظمت يوم فاتح نوفمبر.
السياسيون (من الحزب (الفائز) ومن حلفائهم وخصومهم)، لا وقت لهم لهذا «التذوّق»، حين حصروا الاهتمام بقراءة الانتخابات، وتقدير الأوضاع ومن ثمّة وضع الخطط للمستقبل، بناء على الواقع الجديد الذي جاءت به أو أملته الانتخابات.
انتصر الحزب وقد استطع أن يستدرك كبوة الانتخابات الفارطة، ذلك يكفي لوحده لتتنفّس قيادة الحزب والأنصار الصعداء أوّلا، ليتركوا للناشطين في الاعلام والمواظبين (أو محترفي) مواقع التواصل الاجتماعي (في الداخل كما في الخارج)، مهمّة ودور «الترويج الدعائي» وكذلك «الاستغلال الاعلامي» لهذا النصر، سواء من باب تأكيد السيطرة على الداخل (التركي)، استعدادا لمواعيد قادمة، أو على المستوى الخارجي بما يخدم صورة «الديمقراطيّة» في تركية، وصورة الحزب، و(الأهمّ والأكثر تأثيرًا) شدّ عضد الأحزاب (ذات التوجه الاخواني) المتحالفة مع «العدالة والتنمية»، التي تأتي في تونس كما في مصر في أشدّ الحاجة إلى جرعة الأكسيجين هذه.
النصر يمثّل في المقام الأوّل ثأرًا من الكبوة الفارطة وكذلك تأكيدًا على أنّ الحزب رغم طول المدّة في الحكم لم يتآكل بفعل المشاكل اليوميّة والهموم السياسيّة، لكنّ هذا الانتصار (مهما يكن الطعم الذي يراه كلّ من زاويته) عاجز عن تغطية جملة من الأوضاع القائمة في البلاد أوّلا، وثانيا عاجز بذاته عن تجاوز عديد العقبات التي تتقاطع أو يتقاطع عندها الداخلي بالإقليمي، بالدولي.
يمكن الجزم أنّ عوامل عديدة ساهت في تأكيد هذا الفوز، البعض يراها من زاوية «المؤامرة» وآخرون يرونها من زاوية «ردّ الفعل الطبيعي»، إلاّ أنّ التفجيرات الارهابيّة التي شهدتها تركيا ساهمت في تحوّل (النصيب الذي حدّد الفوز) من التوجهات القوميّة إلى حزب «العدالة والتنمية»، لأنّ ما يهمّ المواطن التركي لحظة تعرّض بلاده لضربات ارهابيّة أو هجمات خارجيّة، ليس اللون الأيديولوجي للفريق الحاكم بل ـ وهنا الأهميّة ـ القدرة والفعل والطاقة على تأمين المصالح الوطنيّة، والدفاع عن الوطن.
مهما تكن الجهة التي تقف وراء هذه العمليات الارهابيّة، يمكن الجزم أنّ حكومة (تصريف الأعمال بحكم الدستور) التي تنتمي لحزب «العدالة والتنمية»، استطاعت في الآن ذاته، تأمين ردّ فعل أمني وعسكري، وكذلك ـ وهنا الأهمّ على المستوى الانتخابي ـ طمأنة المواطن التركي، أوّلا بقدرتها على ضبط الأمن والحفاظ على حياة المواطنين وكذلك أنّ هذه العمليّة الارهابية غير قادرة على تشكيل تهديد فعلي وفاعل لحياة المواطنين وللحياة الاجتماعيّة، في دولة يعتمد اقتصادها على السياحة والخدمات بشكل كبير.
أيضًا شكّل الصراع مع حزب العمّال الكردي، «فرصة» هي الأخرى للحكومة التركية لتبنّي خيار «العصا الغليظة» التي ينادي بها، وترضي فريقا واسعا جدّا من الشارع القومي المتطرّف، الذي ينفي الهويّة الكرديّة، ويعتبر الأكراد أعداء للهويّة التركيّة. استطاعت الحكومة، دون الانغماس في مستنقع التأويلات الايديولوجيّة للصراع مع حزبّ العمّال وأذرعه السياسيّة، استغلال عودة الحزب الكردي إلى «الكفاح المسلّح» لتعطي لذاتها، صورة «الراعية للهويّة التركية»، سواء على مستوى «الوحدة الترابيّة» أو «الأمن والأمان».
سحبت الحكومة من تحت الحزب القومي جزءا من «خطابه» دون أن تتبّنى باللفظ هذه الأيديولوجيا، حين يتبنّى الحزب (القومي) الموقف (تجاه الأكراد) من منظور فكري وعقائدي، في حين اتخذت الحكومة المواقف الصارمة تجاه الأكراد من باب المسؤولية…
زمن الصراع الفعل يغلب النوايا، والسيطرة على الميدان أنفع من المواقف الأيديولوجيّة…
الوضع في سورية كان له تأثير على هذه الانتخابات، حين حدّدت تركية، الحكومة والوعي الشعبي، الوجود العسكري الروسي المباشر، في صورة التهديد (غير المباشر ربّما)، لكنّه قائم على بعد عشرات الكلومترات من الحدود بين البلدين، ممّا دفع «الذات التركيّة» إلى تكتّل أكبر وراء «السلطة الحاكمة» التي أبدت حسن تصرّف في هذا «الطارئ» الجديد على الواقع الاقليمي بكامله…
مرّة أخرى، تتغلّب «غريزة الوجود» على «الوعي الفكري»، ممّا رفع من أسهم حزب «العدالة والتنمية»، في صورة القادر أو هو «الأقدر من غيره» على حماية الوطن والمواطنين.
من الداخل التركي، على خلاف الوضع في سورية أو الصورة المكتسبة في باقي الفضاء العربي والاسلامي، لا تبدو (ما يسمّى) «داعش»، في صورة ذلك «التهديد الاستراتيجي» للدولة التركيّة ولمصالحها، بل بالعكس، يأتي الداخل التركي الأقلّ تأثرا بوجود هذا التنظيم الارهابي المسلّح، بل يقدّم خدمات (مباشرة أو غير مباشرة) حين يحارب النظام السوري أوّلا، ويحارب «قوّات الدفاع» الكرديّة في سورية، المتحالفة مع حزب العمّال الكردي.
لذلك لم يكن عامل «داعش» بتلك الأهميّة في تحديد الهوى السياسي للمواطن التركي عند ممارسة حقّ الانتخاب، بل يمكن الجزم أنّ الأموال المتدفقة من الجهات التي تدعم الطيف المسلح الذي يحارب النظام في سورية، وما تمثّل هذه الأموال من قدرة شرائيّة، جعل قطاعات اقتصادية وشرائح اجتماعيّة ترى في الوضع القائم في سورية، ليس فقط نفعا للبلاد، بل رافعة اقتصاديّة مهمّة، في بلد، يفاخر فيه النظام بقدرته على رفع جميع المؤشرات الاقتصادية دائمًا نحو الأفضل.
مهما تكن التأويلات ومهما جاءت التبريرات، تمثّل تركية القاعدة الخلفيّة لجميع الجهات التي تحارب النظام السوري، وهي تجد في الفضاء التركي، قاعدة خلفية ومصدر امداد بالرجال والسلاح والمواد الاستهلاكيّة التي تغطي حاجات المقاتلين ومتطلبات الحاضنة الشعبيّة في المناطق التي تسيطر عليه هذه الجماعات، لذلك وجب التمييز في جلاء شديد، بين الخطاب الرسمي التركي الرافض للنظام السوري (وإن تراجعت درجة الرفض) من جهة، وما يمكن أن نسميه (دون أدنى إشكال) «التورّط التركي» (المباشر)، بل يمكن الحديث عن «دور تركي مباشر»، حين تلعب مخابرات هذه الدولة دور الوسيط والمحدّد والمنظم للمساعدات الماديّة والمدد بالسلاح الذي تبذله دول الخليج، كل بحسب حليفه داخل التراب السوري.
لذلك يمكن الجزم أنّ نتائج الانتخابات تمثّل (دون أدنى شكّ) دعما مباشرًا وصريحًا بل معلنًا، لسياسة حزب «العدالة والتنمية»، تجاه «الجار السوري»، إلاّ أنّ هذا الدعم ومهما تكن «حرارته» ومستواه على المستويين الشعبي (أوّلا) والسياسي (ثانيا)، يقف بل يتوقّف في حدّة وجلاء ووضوح أمام المتغيّرات الاقليميّة، التي من الأكيد أنّها أخذت «علمًا» بنتائج هذه الانتخابات، إلاّ أنّها (وهذا الأهمّ) لن تتراجع ولن تفرّ من الميدان بمجرّد قراءة النتائج.
«المارد الروسي»، هو أحد أهمّ المعنيين بالنتائج الانتخابيّة، لكنّ القيادة الروسيّة لن تتراجع عن مخططاتها ولن تتوقّف عند «هذه النتائج» أكثر من اعتبرها عنصرًا «معنويّا» عاجزًا عن التفعيل المباشر والصريح على أرض المعركة.
ميزة اللاعبين في الملفّ السوري (من غير الجماعات المسلّحة) أنّهم يدركون في الآن ذاته موازين القوى القائمة أوّلا، وثانيا الأهمّ قدرة الطرف المقابل على الفعل وعلى التدمير، وثالثًا والأكثر الأهميّة، مدى حرص الطرف المقابل على مصالحه، لذلك، لا عنتريات في المسألة (رغم تصريحات أردوغان ذات البعد العاطفي أحيانًا)، إلاّ أنّ الرجل يملك قدرة اللعب على «حافية الهاوية» دون الانزلاق ببلده في درب يستحيل الرجوع منه…
يعلم أردوغان أن بوتين لم يستقدم جيشه وعتاده ليخسر معركة من أهمّ المعارك في تاريخ البشريّة، ويعلم أردوغان أيضًا، أنّ بوتين يعلم أنّ الاقتصاد التركي المبني على الفلاحة والتصنيع والخدمات حصرًا يفتقر إلى الموارد الأوليّة «الثمينة» (كالبترول أو غاز)، ممّا يجعل تركيا وخصوصًا أردوغان (وفق القراءة الروسيّة) أحرص على هذا «الرأسمال»، حين تستطيع كلّ من إيران القريبة وروسيا البعيدة عن ميدان القتال، الاتكال على ثروات نفطية وغازية ضخمة لإعادة الاعمار (في حال المواجهة الشاملة)…
تركية الضلع الهام في الحلف الأطلسي تعلم جيّدا، أنّها ليست أغلى من أوكرانيا وليست أهمّ من هذا البلد المحاذي لروسيا، وهي تعلم جيّدا أنّ الحلف الذي تنتمي إليه، لا ينظر بعين الرضا لتنامي الدور التركي في آسيا الوسطى وفي كامل الفضاء العربي والافريقي، وتعلم بالتالي قيادات «العدالة والتنمية» (التي تُقبل على تشكيل حكومة) أنّ العنتريات التي يتمناها ويطالب بها البسطاء والأغبياء والسذّج في مواقع التواصل الاجتماعي لا تلزم سوى أصحابها والحالمين بها، لأنّ القيادة التركيّة تعلم مدى قدرة البلد الاقتصاديّة والعسكريّة، وتدرك أنّها ربحت كثيرا على المستوى الاقتصادي والسياسي ممّا يجري في سورية، إلاّ أنها قد تدفع «ثمنًا» في القريب العاجل، حين ولّى (وفق العقيدة العسكريّة الروسيّة) زمن «التألّم» (السوري) دون ردّ الألم (الذي أسّست له طهران) منذ بداية الأحداث في سورية، لتكون دمشق أقرب إلى الحليف الروسي من الإيراني، حين تؤمن القيادة العسكريّة الروسيّة بتأمين القدرات الدفاعيّة وسرعة الهجوم على المراكز الحسّاسة للطرف المقابل (أي تركية)…
إنّها حرب حسابات أكثر منها حرب في الحقيقة، وهي حرب تقديرات أكثر منها حرب افتراضيّة، وهي حرب غضّ الأصابع وليّ الذراع عند المواجهة، تأتي سورية الأقوى فيها، لأنّ سورية خسرت بنيتها التحتيّة بالكامل ولم يعد لها ما تخسر، في حين أنّ تركية، حين نستثني بعض العمليات الارهابيّة، لم تشعر أبدا بمساوي هذه الحرب التي كانت كلّها حسنات….
29 تعليقات
تعقيبات: discount ugg store
تعقيبات: stores that carry hunter boots
تعقيبات: furla bags outlet
تعقيبات: patagonia outlet santa cruz
تعقيبات: north face vest sale