لا تدري الأصوات العربيّة المدافعة عن حزب «العدالة والتنمية»، أو هي لا تفقه في أصول الدعاية (السياسيّة)، أنّها عندما تلحّ إصرارًا وتصرّ إلحاحًا، على أنّ الأمور داخل «الحزب» أو هي بين طرفي الصراع «عابرة» وغير ذي قيمة، فهي لا تفعل سوى تأكيد العكس، بل الجزم بأنّ «الخلاف» (الظاهر) في أقصى درجاته، لا يعدو أن يكون شيئا أمام «ما وراء الأكمة»…
ندرك حينها أنّنا لسنا أمام صراع رجلين، سواء بالمعنى النرجسي الطبيعي أو الأيديولوجي العادي، بل أمام خيارين متناقضين يفصلان بين كتلتين داخل الحزب، ليكون السؤال على درجات:
أوّلا: أهميّة كلّ كتلة، على مستوى العدد والفاعليّة والنفوذ والسيطرة، في حالة قامت «مواجهة» (ما)؟؟؟
ثانيا: وجود قاسم مشترك بين الطرفين، يمكن من خلاله «رأب الصدع» (موقتا) في انتظار العثور على حلّ أو أن يجهز هذا الطرف أو ذاك
ثالثًا: تأثير صراع «الجبابرة» (هذا) على مجمل المعادلة المحليّة والاقليميّة وحتّى الدوليّة، حين تأتي تركية من الدول الأهمّ في المنطقة (اقتصاديا وعسكريّا) وثانيا الطرف (الخارجي) الأهمّ في الحرب دائرة في سورية، وفي حلب على وجه الخصوص، مع تأثير ذلك على المنطقة بكاملها، وأيضًا، صارت تركيا رقمًا صعبًا في فضاء الشرق الأوسط وشرق المتوسط أو حتّى أوروبا وآسيا، من أطراف الصين إلى بحر البلطيق على وجه الخصوص.
يمكن الجزم أنّ الصراع بين الرجلين «مزمن» حين لم يفق أحدهما من نومه، ليقرّر مخاصمة الطرف المقابل، وكذلك يمكن الجزم أنّ الخلاف يمسّ أمور جوهريّة لم يعد ممكن (خاصّة لداوود أغلو) السكوت عنها، وثالثًا والأهمّ، يمكن الجزم أنّنا أمام خلاف استراتيجي يهمّ النظرة الشاملة (ضمن أبعادها المؤسّسة والفلسفيّة) وليت (ذلك) «الاختلاف البسيط» (في وجهات النظر)…
من يعشقون تركيا كُثُرٌ ومن يكرهونها كُثُرٌ، لذلك بدأت حرب «الإخوة الأعداء» تلقي بظلالها على مجمل هذا الطيف المتأثّر بالتغيّرات السياسيّة في تركية، بدءا بالموقف ممّا يجري في سورية، وصولا إلى ما صارت إليه (هذه) الدولة من سيطرة وسطوة، سواء في علاقة بالمحيط (المباشر) أو بمسألة «النمط الإسلامي» الذي تقدّمه تركية.
حزب العدالة والتنمية، استطاع قبل أن يصل السلطة، لكن أكثر بعد وصوله إلى الحكم، أن يثبت قدرة وجدارة على النهوض بالبلد، بل الانتقال به أو هو القفز، (في نظر المرجعيّات الغربيّة) من مجرّد «بلد مريض» (بالماضي) وفاقد للديمقراطيّة، إلى «البلد القوّي» وأساسًا «المثال الديمقراطي» في منطقة (عربيّة واسلاميّة) بين تتلوّن بين حكم «الدين» وسيطرة «الشيوخ» وجبروت «الجيش»…
أقنع حزب العدالة والتنمية العالم والعالم الغربي (على وجه الخصوص) أنّ «الإسلام» والديمقراطيّة يلتقيان، بل لا يتناقضان… إلى حين اندلاع الأزمة في سورية، وما صارت إليه تركية من دور مفتوح ومعلن، بل «مفضوح» من كراهيّة للنظام هناك، وأساسًا مدّ (طيف) المعارضات بالمال والرجال والسلاح، لتتحوّل تركية إلى «القاعدة الخلفيّة» لقوس قزح، لا يعلم أحد أين تبدأ «الثورة» فيه وأين ينتهي «الإرهاب» ضمنه!!!!
دون الرجم بالغيب أو الجزم بتفاصيل الخلاف بين الرجلين ومن وراء كلّ منهما «أنصار» بين الرغبة في الحسم مقابل الخوف من تبعات الصراع على الأصعدة جميها، يمكن الجزم أنّ «المناخ» (الاقليمي) يمثّل السبب الأوّل أو (في أقلّ الحالات) «المحفّز» الأوّل لهذا الصراع، حين بدا بوضوح أنّ النظام السوري مدعوم بحلفائه أقرب إلى الحسم، وبعد أن تبيّن أنّ دول الخليج (كعادتها) بدأت تنفض يديها تدريجيا من الملفّ، في حين بان (وفق وساطة جزائريّة) أن الولايات المتحدة بدأت تفكّر في اغلاق الملفّ بما يرضيها ويرضي الأسد.
هل هذا الرضا وذاك يرضي تركية؟؟؟
تركية تعيش لحظة مفصليّة هامّة، بل يمكن الجزم أنّ «الزلزال السوري» لم يعد له ما يحطّم في سورية، عندما تبيّن أن «الهزّات الارتداديّة» سيكون مداها أنقرة، مّما (قد) يفسّر خوف «المنظر» (الأوّل) للحزب الحاكم، الذي يعلم أنّ روسية أشدّ «شهامة» (بكثير جدّا) من أوروبا وكذلك الولايات المتّحدة، حين غامرت موسكو بذاتها وأمنها من أجل سورية (يحكمها بشّار وليس غيره)، على عكس أوروبا وأمريكا، التي ترى أنّ تركية صارت «أطول» ممّا يجب، وبالتالي لا مانع من «بعض التقزيم»….
يصفقّ أعداء حزب العدالة والتنمية، وهم يحلمون بنزال بين أردوغان وأغلو على شاكلة ما يجدّ في الغرب الأمريكي، ليكون السؤال عمّن سيسحب المسدّس أوّلا، ويطلق النار على خصمه، ليلتحم أنصار هذا وذاك في تبادل لإطلاق النار لا ينتهي سوى بمصرع الجميع!!! صورة (جميلة في خيال البعض) لكنّها عاجزة عن توصيف الواقع، لأنّ في هذا البلد، من «اللوبيات» الباحثة عن الاستقرار ما يجعل الصراع يدور ضمن دائرة من الخطّ الأحمر، لكنّ حجم الخلاف ومدى الرهانات في المنطقة وأساسًا تورّط تركية في «الملفّ السوري» يجعل «العوامل الخارجيّة» (غير القابلة للسيطرة) تضغط في قوّة قد (ونقول قد) لا يستطيع هذا الداخل تحمله….
الذين يحلمون بعودة تركية إلى الوهن والضعف، هم على سذاجة قاتلة. دولة مثل هذه الدولة، سيكون حالها (في أقصى أو أسوأ الحالات بحسب المواقف) أشبه بمن يتخلّص من «جماعة» أو «حزب» أو حتّى «أيديولوجيّة» لتعاود قوّتها بجماعات أخرى (ربّما) أو أحزاب أخرى (ربّما) أو أيديولوجيات أخرى (ربّما)…
هذا في حال عجز حزب «العدالة والتنمية» (على الأمد المتوسط طبعًا) في تجديد ذاته، وسط أعداء الداخل وأعداء الخارج، وما بينهما من «طائفة» الإخوان المسلمين، الذي يأتون في صلاتهم أكثر تضرّعا إلى الله بإنقاذ هذا الحزب، لأنّ بموته يموتون جميعًا، في حين ستبقى تركية قويّة، أو هي أقدر ممّا نتصوّر على استرداد عافيتها في وقت قياسيّ…