تختزل قطاعات غير هيّنة ـ سواء من العامّة أو ممّن اعتدنا اعتبارهم ضمن «المثقفين» ـ أهميّة ما يسمّى «الثورات» العربيّة في القدرة أو هي المساهمة، أو ربّما البتّ في مسائل ذات علاقة أو تمكّن من تحديد «حقائق الأمور» في علاقة بالمسائل الأخلاقيّة ـ «القائمة» افتراضا ـ من قبل مجمل المرجعيات العربيّة، في مجالات الحياة العامّة، والسياسيّة على وجه الخصوص.
هذا الاختزال الذي وسم المنطق الجمعي، جعل الصراعات الفكريّة حول هذه «الثورات» يتخذ بعد «القطع» الأخلاقي المبدئي، دون رغبة أو هي الحاجة للغوص في متاهات الفكر، سواء من باب تحديد مرجعيات القراءة، ضمن الأصول المؤسسة للبحث، أو زوايا هذه القراءة المعتمدة، ليأتي البناء التحليلي ومن ثمّة بناء النتيجة، على أسس تقاطع بين الانتماء/الموقع القطري أو الأيديولوجي أو حتى المذهبي أو هو الطائفي أحيانًا، من جهة، والموقف أو الموقع ضمن هذه «التغيرات» (الثوريّة) من منطق «الربح» (المحصّل) و«الخسارة» (المسجلّة).
لا نرى تقريبا أو هو غياب كلي يكاد، ضمن بلدان ما يسمّى «الربيع العربي»، لأّي قدرة/رغبة لفصل البعد «العاطفي» عن «القراءة الموضوعيّة» لهذه التحوّلات الهامّة والتغيرات الأكيدة ضمن المشهد الماثل أمامنا، حين غلبت «الحماسة» في بعديها «العاطفي» أو «الغريزي» أيّ قدرة/رغبة في تسليط الأضواء «العقلانيّة» على هذا الحراك الاستراتيجي الذي هو بالتأكيد فاصل بين عهدين.
رغم كلّ أبعاد «الفخر» ومجال «الحماسة» التي طبعت «ثوّار» (النسخة الجديدة)، يمكن الجزم أنّ القراءة العربيّة لهذه التحوّلات بقيت في عجز أكيد أو هي عدم القدرة على تسجيل «مقاربة» موضوعيّة، تملك قدرة النزول، حتّى في حال المحافظة «الماكيافلية» على الخطب الرنانة والشعارات الفوقيّة، إلى عمق المسألة في أبعادها العضويّة، من خلال مقاربة «تفكيكيّة»، تخرج بخلاصة، تطرح «الصورة الحقيقيّة»، القادرة حتّى في حال وجود قرار سياسي قاطع بالحفاظ على «الخطب والشعارات» ذاتها، على إعادة صياغة «السياسة» (الفعليّة) والمقاربة (الواقعيّة) في علاقة بالتغيرات الإستراتيجية القائمة أمامنا، والتي تأتي كمثل «الريح»، أحيانًا، نرى فعلها من خلال الأغصان المتحركة، دون القدرة على تشخيصها المباشر.
المراجع لمجمل الخطاب السياسي وحتّى الإعلامي التي أنتجته القوى التي تقف (أو تدّعي الوقوف) وراء «الثورة» في كلّ بلد، يلاحظ ـ دون عناء ـ أنّ «الثورة» تحوّلت من «فعل» (متحرك بذاته وبالضرورة/الصيرورة التي أنشأته) إلى «رأسمال» يستدعي الدفاع عنه أمام «جحافل» المهاجمين» سواء كانوا من «أزلام النظام السابق» أو/و «أعوان الثورة المضادة»…
هذا «التبسيط» في التوصيف و«السطحيّة» في القراءة، يستدعي «الثورة» في صورة «سلاح استراتيجي» يتمّ ابرازه في وجه المناوئين أكثر منه «مشروع» يجد شرعيته في ذاته.
كلّ «الثورات» العربيّة تحولت أو هي سقطت في فخّ حروب استنزاف (مهما كانت نظريّة «المؤامرة» الداعمة لهذه الفكرة)، حين يمثّل الأمر محصّلا طبيعيّا لنوعيّة العلاقات القائمة سواء بين «القوى الثوريّة» (أو التي تدّعي ذلك) من جهة، والقوى «المعادية للثورة» (سواء جاءت هي نافية للثورة، أو تمّ وسمها بهذه الصفة»)، لتكون «الثورة» موضوع خلاف، وشعار (من جملة شعارات) المرحلة، وليس عقليّة جديدة، وفكر قطع مع العقليات السابقة.
عجز «الفكر الثوري»، عن تحويل «المشروع الثوري» إلى تلك «الشمس الساطعة» (كما هي الثورات «الكلاسيكيّة» من خلال أدبياتها)، يجد تفسيرًا له (لدى «ثوّار المرحلة»)، من خلال ما يتم طرحه من أولويّة الوقوف المادي والمقاومة الفعليّة، أمام الهجمات المتواصلة بل المسترسلة على (هذه) «الثورة»، على أن يكون «الجانب الفكري/الأدبي/النظري» مؤجلا إلى حين «التمكين» واستتباب «الأمن»، أي «الوصول إلى السلطة»!!!
يجوز حينها (معرفيّا واجرائيّا ومنهجيا) السؤال عن «مفهوم (هذه) الثورة» من أساسها؟؟؟
هي صورة متناقضة حدّ الانفصام، مرجعيّة حسم وحزم في التعامل مع المسألة «الثوريّة» على مستوى الخطاب الكلامي، في مقابل انغماس بل غرق حدّ النخاع ضمن مستنقع الفعل اليومي والممارسة الفعليّة، سواء حين عجزت «القوى الثوريّة» بدءا من تعريف ذاتها بذاتها أو من خلال «الممارسة الثوريّة» الدائمة، نهاية بهذا التكالب المتواصل من «الجميع» بحثا عن «نصيب» من ميراث هذه «الثورة» كأنّها تحولت أو انقلبت «جثّة» ينهشها من استطاع تحصيل نصيبًا (من خلال القوّة)…
ما يمكن الجزم به أنّ «الصورة الثوريّة» لم تعد بوضوح المشهد عند بداياته، بل يمكن الجزم كذلك أنّ لا دليل ـ في استثناء العاطفة ـ يمكّن من الذهاب حدّ التفاؤل ـ وإن كان محدودا ـ بتحسن الصورة وانقشاع المشهد، ممّا يعني مزيد الغرق بل الانهيار ضمن «سفسطائية» جاءت أو هي انقلبت كمثل «ثور الساقية» يعاود مساره، حين عجز عن إدراك أنّه لن يغادر مكانه.
انقلبت «الثورة» حالة «ذهنيّة» فقط لا يمكن نكرانها أو تجاوز أنّها حقيقة، في حين صار «الثوّار» يتقاسمون «رأسمال» أو هو «الميراث» في نفي متبادل أو هي حرب استنزاف دائمة، نظّر لها البعض أنّها مواصلة للنفس الثوري القاعدي، ممّا يعني تبديلا لمركز الفعل من مجاله الأوّلي، أيّ الشارع، إلى كواليس السياسة التي، صارت تستدعي هذا الشارع عند الضرورة، سواء جاء لفظ «الشارع» بمعنى التحركات السلمية أو هو «الحراك المسلّح»…
هو تراوح بين إعادة استرجاع «الأسطورة المؤسسة» سواء كانت سلاحا للذات أو بمعنى منع الأخرين عنها، لتكون حرب وصاية أو هي معارك استحواذ على هذا «الميراث الشرعي» الذي يستدعي «القاموس الديني» (في بعده الاجتماعي)، حين يمكن الحديث (في شأن «الثورات القائمة») عن «سدانة ووفادة» كما هي عادة قريش قبل فتحها، حين جعلت من «البيت» أصلا تجاريّا، تمنع عنه «الأعراب» الذين يمثلون «حرفاء»، إلاّ بمقابل…. كمثل سادة قريش في تجارتها بين الشام واليمن، يسعى الثوار الجدد (أو بعض منهم) بين هذه العاصمة وتلك… كلّ لتجارة لديه…
يمكن الجزم، بل القطع أنّ «التنظير للثورة» صار الصورة الطاغية على «الممارسة الثوريّة»، حين استحوذت القوى السياسية على هذه «الممارسة» وجعلتها من أدوات الصراع السياسي (التقليدي) بأدوات «ثوريّة»…