حين نتجاوز «نظريّة المؤامرة» التي يؤكد أصحابها (في قسم بين الكلمة والأخرى) أنّ لا سياسي في تونس (كما في الدول المشابهة)، يمكنه التنفسّ خارج منطق الأمر والطاعة للسفارات الأجنبيّة، يمكن الجزم على خلاف ذلك، أنّ دائرة التفاعلات الداخليّة في تونس شديدة الارتباط وعظيمة التأثّر بالدائرة الاقليميّة ومن بعدها الدائرة الدوليّة.
بدءا وجب تجاوز النظريات الطوباوية والشعارات الجوفاء القائلة بالانعدام (النظري) للدائرة الوسطى أو الاوسع، وكذلك وجب التأكيد أنّ لا دولة من دون هذه «الدوائر»، لنخلص إلى وجوب البحث في العلاقة بين هذه الدوائر وأي منها تسيطر (ربّما) وأي منها تتجاوز (ربّما)، وحتى تلغي أو تتعامل معها من منطق «الأمر والطاعة»…
وجب التأكيد على أنّ السياسة تنبني بالأساس وتتأسّس على قاعدة قراءة الواقع وليس تفسير النوايا، ومن ثمّة يكون السؤال (الصحفي أو الاستفساري) منطقيّا، بل مطلوبًا عن تزامن زيارة ثلاثة سياسيين تونسيين إلى الولايات المتّحدة: راشد الغنوشي لتسلّم جائزة مناصفه مع «جليسه» الباجي قائد السبسي الذي فضل عدم الحضور وفوّض الدبلوماسي المخضرم أحمد الونيّس، محسن مرزوق «لإلقاء محاضرات في جامعات أمريكيّة» وأخيرًا كمال مرجان، دون أن تتبيّن أسباب الزيارة…
كلّ له مقامه وكلّ له وظيفته ومن ثمّة لا يمكن أن نغفل الوزن «الداخلي» عند قراءة هذه الزيارة «الخارجيّة»، كذلك لا يمكن أن نُغفل الوضع العام في البلاد، كما لا يمكن أن تغفل مكانة الولايات المتحدة ومقامها وكذلك دورها في تونس، مهما تكن القراءات لهذه المكانة وهذا المقام وهذا الدور…
يكفي أن يجتمع الثلاثة هناك، صدفة أو دونها، حتّى تتحرّك غريزة السؤال والتساؤل في وعي النقد، للاستفسار وربّما الذهاب نحو افتراض أنّ الأمر يخصّ (لدى هذا أو ذاك)، بذل «خدمات» للدولة الأقوى أو عقد «اتفاقيات ما» أو هي «محاولات» أمريكيّة، لترسيخ منظومة أو صياغة أخرى بديلة، حين يأتي اليقين (بما لا يدع للشكّ) أنّ العقل السياسي الأمريكي يعمل وينشط من خلال «زرع روح المنافسة» بين العارضين (من ذات المنطقة) لجعلهم يبذلون أفضل خدمة بأقلّ سعر ممكن، حين يتلاقى منطق السوق التجاري (الامريكي) بالعقل المدبّر للشأن السياسي هناك.
الكلّ يعلم ويدري:
ـ مدى الدور الذي لعبته الولايات المتّحدة دفعا للتوافق بين الشيخين وما تبع وتأسّس على ذلك من منظومة سياسيّة أهمّ نتائجها الرباعي الحاكم راهنًا.
ـ مدى الصراع القائم داخل النداء والدور الذي تلعبه النهضة من خلال علاقة أقرب إلى الشقّ الدستوري، رغم ما جاء من خبر (نسوقه بكل احتراز) عن سعي محموم من محسن مرزوق للقاء راشد الغنوشي…
ـ اللقاء الذي تمّ بين محسن مرزوق وكمال مرجان، وفهم منه البعض أو قيل أنّه محاولة لشقّ «الصفّ الدستوري» أو على الأقّل جذب صفّ منه حين انجذب صفّ من «الدساترة» إلى حركة النهضة
فوق هذا التشخيص وقبله، تبقى الساحة التونسيّة مفتوحة على عدّة احتمالات أو الاحتمالات جميعها، التي قد تدغدغ الحسّ الصحفي، أو تليق بالغرف المغلقة والمطابخ السريّة (في الولايات المتّحدة على وجه الخصوص)، وكذلك المفتوحة على من هم فوق الساحة يرتعون أم يتمّ اعدادهم في «مواقع خاصّة»…
لذلك تبقى الولايات المتّحدة أحد أهمّ اللاعبين على الساحة التونسيين، أو ربّما ليست لاعبا بالمفهوم الكروي، بل الممرّن أو المدير الفنّي الذي يختار «التشكيلة السياسيّة» أو هي من يقرّر متى يتمّ اللجوء إلى «المنشطات» (الحلال طبعًا). كلّ ذلك في توافق مصالح أو تقاطع صدامي أحيانًا أخرى مع الدائرة الاقليميّة وبقايا الدائرة الدوليّة…
لذلك من الطبيعي أن يزور سياسي يحتلّ مكانا (في تونس) ويبحث عن مكانة (في المستقبل) له أو لحزبه أو لهما، الولايات المتّحدة، لكن السؤال هنا يتلخّص في نقطتين مترابطتين:
أوّلا: ماذا يقدّم هذا السياسي، أو بالأحرى ما هي نقاط تقاطعه مع الولايات المتّحدة ومصالحها، وهل هو قادر أصلا على دخول لعبة مقايضة مع قوّة عظمى لا تؤمن سوى بالمصالح ولا يمكن أن تنطلي عليها الشطحات الاعلاميّة والخرجات الفلكلوريّة، التي هي عماد الفعل السياسي في الداخل التونسي، خصوصا على المنابر الاعلاميّة؟
ثانيا: مدى توافق هذا السياسي أو ذاك، مع الخطّة الاجماليّة للولايات المتّحدة الأمريكيّة في المنطقة بكاملها، ومدى توافق قدرة «هذا اللاعب» مع الخطة الموضوعة (من قبل المدير للفنّي للفريق)، ومن ثمّة (وفق قراءة التاريخ)، امكانيّة أن يتحوّل لاعب من طراز عال إلى «مجرّد بديل» أو يغادر المشهد تمامًا، ليس لضعف في «القدرات السياسّة» أو (لا قدّر الله) عدم انضباط بقواعد اللعب «الأمريكيّة»، بل فقط (وحصرًا) لأنّ مؤهلاته لم تعد تلائم الخطّة المرسومة…
لفهم مكانة السياسيين التونسيين (أو غيرهم) لدى أصحاب القرار في الولايات المتّحدة، علينا أن نتلبّس العين الأمريكيّة في قراءة المشهد التونسي.
تونس تحمل رمزيّة خطيرة (بمفهوم الأهميّة) حين تمثّل (رغم جميع الصعوبات) «الحالة الأقلّ سوءا ضمن منظومة (ما يسمّى) «ثورات الربيع العربي»»، حين تحتاج الولايات المتحدة وسط «الفوضى» (غير الخلاقة) إلى «شمعة» تحاسب من خلالها ما تراه «ظلامًا»…
كذلك تقع تونس، أو هي (بالمفهوم الكروي) في «الزاوية» (فعلا)، بين ليبيا أشبه ما تكون بساحة حرب دائمة، وجزائر تترنّح بين استقرار قائم ومخاطر عديدة قائمة وقادمة، لذلك يستحيل (وهنا لبّ المسألة) قراءة الواقع التونسي (بعيون أمريكيّة) بعيدًا عن العلاقة مع هذين البلدين، وخصوصًا الدور المحتمل والممكن (بل المطلوب) لهذا البلد (الصغير جغرافيا والضعيف اقتصاديا)، لنخلص إلى «ما هو مطلوب» من كلّ من راشد الغنوشي ومن محسن مرزوق أو من كمال مرجان، أو بالأحرى، ما يستطيع هؤلاء (كلّ على انفراد طبعًا) أن يقدّم ضمن الجوق الامريكي في المنطقة…
الوجه الأخر للسؤال الذي يبدو بديهيا: ما هي دوافع راشد الغنوشي ومحسن مرزوق أو كمال مرجان في «التفاعل» مع الولايات المتحدة، سواء من خلال الزيارة في ذاتها، أو المباحثات، سواء مع أصحاب القرار المباشرين، أو (ربّما) لقاءات غير معلنة، أو «مراكز الأبحاث» أو حتّى الجامعات، وما هي حدود كلّ واحد منهم بين «الممكن فعله» و«المستحيل التفكير فيه»…
يحج الساسة من مختلف دول العالم لتقبيل «البيت» (الأبيض) بين من يريد عرض خدماته وبين من يريد المقايضة، وبين من جاء لإثبات الوجود لا غير… التاريخ وحده لا يرحم ولا يظلم، وخاصّة لا ينسى أبدًا…
20 تعليقات
تعقيبات: chanel store locator
تعقيبات: cheap canada goose jackets
تعقيبات: radio online mk
تعقيبات: factory coach outlet online
تعقيبات: buy patagonia