الجزائر : مجرّد «بعد نظر»…

24 مارس 2024

إضافة إلى تحرير الجزائر (الأرض والشعب والهويّة) من احتلال دام 132 سنة، ندين للمجموعة التي تقف وراء ثورة نوفمبر المجيدة، أنّها أقامت مشروعها على نفي قاطع وبات، لا تراجع عنه ولا رجعة فيه مع المستعمر الفرنسي وأنّ الهدف تحرير الجزائر كلّ الجزائر، بل كذلك (والأمر لا يقلّ أهميّة) على نفي لا يقلّ قطعًا مع «الزعيم» مصالي الحاج، سواء الشخص أو الرمز أو أسلوب الحكم وكيفية إدارة «المشروع الوطني».

مع العلم أنّ «حرب الإخوة الأعداء» بين كلّ من «جبهة التحرير الوطني» وخصمها اللدود «الحركة الوطنية الجزائرية» حزب «الزعيم» مصالي الحاج، كانت دمويّة إلى أبعد الحدود، لكنّها كذلك، وهنا تكمن الأهميّة بالمفهوم الحاضر، شكّلت «حرب مفاهيم» بالمفهوم الفلسفي، بين من يرى نفسه (أيّ مصالي الحاج) الماسك بمفرده لشرعيّة الفعل الثوري، ومن ثمّة وجوب أن يقابل العمق الشعبي ومن ورائه مناضلو جميع الأحزاب التي أسّسها هذه الشرعيّة بما يجب من طاعة وامتثال وكذلك التسليم له بحقّ التفكير دون اغفال وحدانية اتخاذ القرار، مقابل من يعتبرون عن قراءة وتحليل واستنتاج أنّ هذه «الزعامة» لم تجلب الخير البتّة للبلاد كما للعباد….

مواجهة دامت أشهر وكلّفت جبهة التحرير خسائر بشريّة هامّة قياسًا مع حجم الجبهة آنذاك، التي كانت مجبرة على القتال على جبهتين، لكنّ الحسم كان مطلقًا، ليغادر مصالي الحاج (الشخص والرمز والأسلوب) المشهد السياسي رغم سعي شكلي من قبل فرنسا لإشراك حزبه في مفاوضات «إيفيان».

منذ ذلك التاريخ، ومغادرة هذا «الرمز» الساحة السياسيّة، وإلى يوم الناس هذا لم تعرف الجزائر «زعيمًا» بمعنى الاستفراد بالحكم قادر على طريقة «الحبيب بورقيبة» في تونس أو النظام الملكي في المغرب الأقصى، اتخاذ قرارات ذات بعد استراتيجي تنقل الرؤية السياسيّة وبالتالي موقف البلاد وموقعها، من النقيض إلى النقيض، دون أن يملك أحدهم (داخل البلاد وبخاصّة داخل أجهزة السلطة) القدرة أو هي الشجاعة، على طرح مجرّد تساؤل في بعده المعرفي، فما بالك بالاستنكار أو الرفض.

بقيت الجزائر ولا تزال، بما في ذلك زمن الرئيس الراحل هواري بومدين الذي ذهب أقصى من غيره في تجميع أوراق السلطة بين يديه، بقيت تعمل بمنطق «الجماعة» أيّ وجود أكثر من اتجاه داخل دواليب الدولة، يكون واجبًا على من يجلس على أعلى كراسي الدولة أخذها بعين الاعتبار وعدم التعامل معها بعقليّة «النفي» أو أخطر من ذلك اعتبارها في صفّ «الأعداء».

moineau-1-145011حدث لهذه «الآلة» أن توقفت (لفترة قصيرة) عن النشاط، عندما أقدم العقيد هواري بومدين على ما سمّي «التصحيح الثوري» سنة 1965 وانقلب على الرئيس (الشرعي) أحمد بن بلّة، وعاود المسعى ذاته دون نجاح العقيد الطاهر الزبيري في شهر ديسمبر 1967، وصولا إلى شهر أكتوبر 1988، حين خرجت «آلة السلطة» عن العمل، وما جاء بعد ذلك من دخول «الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ» المشهد السياسي من الباب الكبير، حصولها على أغلبية مريحة في الانتخابات التشريعيّة. «نجاح» دفع «الآلة» للتدخل من جديد حين عمدت إلى إيقاف «المسار الديمقراطي»، لتدخل البلاد عشريّة سوداء، غادرتها الجزائر بعد أن دفعت عشرات الآلاف من أبنائها وبناتها ثمنًا.

يمكن اعتبار «حراك» شهر فيفري 2019، نقطة خارج السيرورة التاريخيّة العاديّة للممارسة السياسيّة في الجزائر، حين يمكن الجزم دون أدنى شكّ أو نقاش، أنّ الملايين التي خرجت إلى الشارع في مظاهرات أصرّ المشاركون على أنّها سلمية، جعلت منطق الفعل يتجاوز «آلة الحكم» حينها، وبالتالي الارتقاء إلى ذات المرتبة التي تحوزها ثورة نوفمبر المجيدة، أيّ الحسم (هذه المرّة دون أدنى عنف) مع «حزب الكادر» وما شابه واستبعاد هؤلاء جميعا من المشهد السياسي بالكامل.

عجزت النخب التي حاولت ركوب الحراك كما الأحزاب التي تخيّلت قدرة تطويع هذا المارد، على «لملمة» الوضع، وتقديم ذاتها (كلّ على حدة) في صورة «المؤتمن الأوحد» على الحراك والروح التي ينبض بها.

كانت لحظة فارقة، الحراك الذي شكّل أقصى ما استجمع المجتمع الجزائري من «رأسمال رمزي» منذ الاستقلال، لم يجد النخب التي يحتاج والأحزاب التي يستحقّ. ممّا جعل الدولة تستفرد بالحلّ (مثل العادة) حين حاسب من في السلطة «الخارجين عن سياقها» أو هم من «استفردوا بالآلة» سنوات. في المحصّل نصف السلطة حاسب نصفها الآخر، أمام معارضة ونخب أدمنت الفرجة وصارت لا تتقن سوى فنّ المشاهدة، لا غير.

هناك من لا يزال يلوم أجهزة الدولة الماسكة للمال والسلطة والسلاح، أنّها لم تنقلب على بوتفليقة وتفتك منه صلاحياته وتحيده عن الحكم، ثمّ تنادي هؤلاء الذين طالبوا بالأمر، فتمكنهم من صولجان «الملك» أو هي تنفي الانتخابات من أساسها وتجعل الحكم بالوراثة لذريتهم إلى يوم الدين.

تعيش الجزائر راهنًا أزمة «صورة» وليس أزمة «آلة»، حين لا يتوافق الخطاب الإعلامي الرسمي، مع حقيقة المشهد الماثل أمامنا. الديمقراطيات الليبراليّة في الغرب، أبدعت ولا تزال تبدع في تطويق «الأضواء» وجعلها مسلطة على المسائل التي تقبل الجدل، في حين أنّ هناك في الجزائر من يسارع إلى نفي خبر افتكاك عصفور من العصافير التي تعشّش في حدائق القصر الرئاسي، حبّة قمح من عصفور ثان، ليكون التكذيب والجزم والتذكير وحتّى التهديد بالعقاب والويل والثبور، بأنّ العصافير التي تتّخذ من حديقة القصر موطنًا لها، مستحيل أن تأتي مثل هذه الأفعال المشينة. فقط وحصرًا لأنّها تقيم في جنائن هذا القصر… لا أكثر ولا أقلّ…

ما نراه في الجزائر حاليا، من ضبابيّة على مستوى المشهد الإعلامي في علاقة بتأجيل الانتخابات محصّل طبيعي ونتاج منطقي لأسلوب إدارة هذا «الإشكال» الذي ما كان ليكون اشكالا، لولا منطق «كلّو تمام يا أفندم»…

في المقابل بقي لفيف من الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام، على قناعة ترقى إلى إيمان الأنبياء، بأنّ «النظام الجزائري» لا شرعيّة له أو بالأحرى لا أحقيّة له في الوجود، سوى عند تطابقه بالكامل مع ما يحمل كلّ منهم من «صورة» نمطيّة عمّا وجب أن يكون عليه الوضع في الجزائر.

هم ليسوا فقط، يمارسون المحاسبة وفق ما لا يملّون من ترداده أنّها أرقى «المعايير الديمقراطيّة» في معاناها الغربي الليبرالي، دون أدنى تنسيب أو أخذ بعين الاعتبار للمحدّدات التاريخية للواقع الجزائري، بل لا يرون أو هم يحصرون اهتمامهم حصرا ونكاية في «ربع الكأس الفارغ»…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي