بمجرّد إعدام شهيد حركة الإخوان المسلمين سنة 1966، نشأ زمن المرشد العام حسن الهضيبي ونما فترة المرشد عمر التلمساني، تيّار جعل من «مهادنة» الأنظمة الليبراليّة في الغرب «خيارًا استراتيجيّا»، أو في أقلّه اعتبر «معركة الحسم» مع (هذا) الغرب «مؤجلة»، وفي أقصاه إمكانيّة «الاستفادة» من الهجمة المفتوحة على الأنظمة العربيّة «الثوريّة»، وحتّى «التحالف» مع هذا الغرب، من باب «وحدة الهدف»، مؤقتًا حسب البعض، أو هو دعاء «اللهم اضرب الظالمين بالظالمين واخرجنا من بينهم سالمين».
تأصّل هذا «التوافق» أثناء الغزو السوفيتي لأفغانستان وأصبح مدرسة متكاملة الجذور كما الفروع، أيّ الجمع بين «النفس الإخواني» من جهة، والتوجه الليبرالي الغربي من جهة أخرى.
كما تمّ النظير للتوافق بين الإسلام والاشتراكية زمن جمال عبد الناصر، تأسّست زمن خليفته أنوار السادات، نظريّة التوافق بين الإسلام والرأسماليّة.
عديد التنظيمات ذات النفس الإخواني وضعت جميع بيضها في سلّة «الإسلام والديمقراطيّة» وأقامت خطّتها «الهجوميّة» للوصول إلى السلطة، وقبل ذلك «الدفاعيّة» درءا لعنف الأنظمة على هذه «الشراكة» مع المعسكر الغربي.
ضمن هذا المسعى، عندما نأخذ الحالة التونسيّة نموذجًا، اتخذ المسعى مسارين موازيين :
المسار الأوّل : إقناع الغرب عامّة والولايات المتحدة الأمريكيّة خاصّة بأنّ حركة النهضة، «كائن ديمقراطي» من رأسه حتّى أخمص قدميه، وأنّها برأت وتبرّأت من «الماضي النضالي»، أي «العنف المادي/الجهادي» من جهة و«العداء الأيديولوجي» للغرب وبصفة أخصّ الولايات المتحدة على وجه الخصوص.
المسار الثاني : إقناع العمق الشعبي بالأولويّة القائمة، أنّ التحالف مع الولايات المتحدة أو في أقلّها المهادنة تأتي من باب «ترتيب العداوات» لا غير.
من ثمّة كان على حركة النهضة التأسيس لخطاب سياسي ينبع «مساحة التقاطع» بين ضروريات «الرداء الديمقراطي»، ومنها (ضمن أمثلة عديد) قرار زعيم الحركة راشد الغنوشي ارتداء ربطة عنق، من جهة، ومن جهة أخرى أساسيات الخطاب التعبوي داخل الحركة، غير البعيد عن «حاكمية» السيّد قطب.
جاء «طوفان الأقصى» ليعرّي جميع الديمقراطيات الليبراليّة في الغرب، ويفضح نفاقها، مع ما يحمل ذلك من تبعات جدّ خطيرة، وذات تأثير أشبه بالانقلاب أو هو «التسونامي» فعلا وحقيقة، حين لم يعد من الممكن أو هي سابع المستحيلات، إيجاد «مساحة مشتركة» بين واجب تبنّي خطاب حركة حماس وبالأخص جناحها المسلّح، من جهة، ولزوميات ما يلزم من خطاب «ديمقراطي» في علاقة بالغرب عمومًا…
يمكن الجزم أنّ «طوفان الأقصى» جاء أشبه بأشدّ الأعاصير قوّة، في مواجهة كوخ متهالك. حيث فقدت حركة النهضة في أقلّ من رمش عين ما قضت قرابة العشرين سنة في جمعه…
من ذلك نفهم انقلاب راشد الغنوشي على ذاته، بين ما صرّح به لقناة «الزيتونة» معتبرا «فرنسا والولايات المتحدة من رعاة الديمقراطيّة في العالم» من جهة، والبيان الناري/الجهادي الذي أصدره من سجنه نُصرة لكتائب القسّام في غزّة، من جهة أخرى…
الأزمة أوسع من الحالة التونسيّة وأعمق من الزلزال الذي هزّ خطاب حركة النهضة، حين ستقود ضرورة صناعة «خطاب جديد»، على الأقلّ يقطع ما كان سائدًا قبل 07 أكتوبر 2023، إلى وجوب إنتاج «سياسة جديدة»، تكون متوافقة مع الواقع الجديد في شرق المتوسّط، ممّا يعني نقد فترة الرهان على «الإسلام الليبرالي» التي لا يكفي إصدار «بيان ناري» لطيّ الصفحة قبل الحديث عن تمزيقها.
لا يزال «الإسلام الليبرالي» منذ اندلاع «طوفان الأقصى» أشبه بحال الشرنقة المتجمّدة : لا هو بقي على حال ما قبل 07 أكتوبر ولا هو تحوّل بالكامل ليوافق ويتوافق على مستوى القرار السياسي والممارسة الميدانيّة مع المستجدّات في شرق المتوسّط عامّة وفلسطين خاصّة وغزّة بالتدقيق.
فترة تيه قد تطول…