الباجي ومنشور 73: هل اضاء «الدولة المدنيّة»، أم أضاع «الإسلام الاجتماعي»؟؟؟؟

13 أغسطس 2017

حين ألقى الباجي قائد السبسي خطابًا يستذكر فيه مآثر بورقيبة، ويعلن السير على درب «المجاهد الأكبر»، وجب من باب الأمانة التاريخيّة، قراءة العلاقة بين الرجلين، وما هي مكانة كلّ منهما في زمانه وضمن إطاره التاريخي. مع حفظ المقامات وتقدير المناصب وما يجب من احترام للأفراد، وكذلك أخذ بعين الاعتبار اختلاف السياقات التاريخيّة، يمكن الجزم بالفرق الشاسع والبون الفسيح جدّا، بين الحبيب بورقيبة والباجي قائد السبسي، وكذلك (وهذا الأهمّ) دولة بورقيبة ودولة قائد السبسي. الأوّل حاز اجماعًا منقطع النظير وارتكز إلى «قداسة البايات» كما «غطرسة الحماية» وزاد عليهما «هالة الاستقلال» ليصبح في مرتبة «الأولياء الصالحين»، في حين لا اجماع حول الباجي قائد السبسي حاليا، حين انشطرت البلاد بينه وبين خصومه، وتشظّى حزبه وراح شقوقًا، كما ناله ويناله من السخرية والاستهزاء الكثير، ممّا يعني أنّ بورقيبة استطاع «التمكين» لمجلة الأحوال الشخصيّة بما ملك من سلطان، في حين الباجي عاجز عن «التمكين» لإلغاء منشور نوفمبر 1973، حين يخاصمه جزء غير هيّن من المجتمع.

الملاحظ أو من شاهد خطاب الباجي، يمكنه التأكّد والتأكيد على أمرين: أوّلهما بقدر رغبة الباجي في التقدم بقدر التشبّث بما هو «الدستور»، وثانيهما تأكيده واصراره على عدم «الصدام مع الشعب»، ممّا يعني أنّ الرجل ليس على وعي فقط بمخاطر الخطوات، بل (وهنا الأهمّ) خطورتها على وجوده السياسي ومستقبله وأيضًا، نظرة التاريخ إليه…

 

لا تدري نخب الحداثة ودوائر العلمانية ومن يتحدثون عن المساواة في الارث وحق البنت المسلمة الزواج بغير المسلم، أنّ الأمر مرفوض رفضا باتا لدى عمق اجتماعي ليس بالضرورة قد بايع راشد الغنوشي أو هو على هوى أحد أطراف (ما يسمى في معجم السياسة) «الاسلام السياسي»… «الاسلام الاجتماعي» أو هو مجمل ما رسب عبر 14 قرنا من أخلاق ومعتقدات أصبحت وترسّخت أشدّ وثوقا من النص القرآني الصريح وأعمق فعلا من أي حديث نبوي شريف. بل هناك من «المعتقدات الاجتماعية» (مثل عدم تعليم الانثى، مثلا) عجزت عن مقاومته الدولة والاسلام السياسي ذاته…

 

الفرد من المجتمع الذي يقطع الطرق ويسرق أرزاق الناس ويعاقر الخمرة ويعاشر بائعات الهوى من احط طراز، يتحول الى محافظ بل شديد المحافظة ان لم نقل متطرف شديد التطرف عندما تعني المسألة شرف اخته او تصرفات ابنته أو حتى أيّ تصرف مادي أو شفاهي تجاه امه او أيّ «أنثى» من عائلته. بل يفرح ويذهب الامر حد الاحتفاء بزجاجة خمرة من النوع الرديء عندما تتحجّب ابنته، لان الحجاب عنده دليل عفة وحفظ لشرفه دون ان يراقب او يتأكد ان كانت هذه البنت تؤدي الصلوات في أوقاتها أو تلتزم بغيرها من الشعائر….

الباجي وبورقيبة

الباجي وبورقيبة

كذلك شباب لم يركع ركعة لا يبغي الزواج سوى من محجبة ليقين (في دماغه) أنّها «الأشرف». أيضا تقبل العائلة التونسية ليس فقط أن يتزوج «الابن» غير المسلمة وان كانت عجوزا شمطاء بل يشجعونه ويفاخرون بالأمر الى حين «يورّق» [أيّ يحصل على الاقامة وغيرها من الوثائق في بلاد الغربة]، في حين لا رجل في تونس العميقة وأريافها يفاخر في مقهى القرية أو الحيّ ان اخته (رمز شرف العائلة) تزوجت بغير مسلم، بل يخفي ذلك ويعتبره معرة لا تمحي…السواد الاعظم من عمق المجتمع التونسي يرى في من تزوجت بأوروبي (غير المسلم) «قاف حاء باء تاء» (يدمج الحروف من شاء)…

 

اقوى من دولة 55 (بجميع مكتسباتها) ومن إسلام الغنوشي (وما هو له من «سطوة» على المجال الديني)، هو الإسلام الاجتماعي. صحيح أنّ الدولة بإلغاء تعدد الزوجات وكذلك بفرض التعليم، قد حققت «مكاسب» الا ان المجتمع يفرض ناموسه حين نرى أنّ «معاشرة ثانية خارج اطار القانون» أصبح من الامور العادية بل غير الملفتة للنظر. عند اول زواج رسمي لتونسية بغير مسلم، بعد إلغاء منشور نوفمبر 1973، سيكون من اقارب الفتاة من سيلعن الباجي دون حدود لأنّ لولا قرار «فخامته»، ما كانت هذه الفتاة ستجلب «العار» لعائلتها وكامل عرشها… هو شرخ شديد ينضاف الى الشروخ القائمة بين النخب الحاكمة وعمق اجتماعي يعتبر الشرف، أيّ كل المواضيع ومجمل المسائل المرتبطة بالزواج والحبّ والجنس، وما هي مكانة «الأنثى» ضمن هذا الثالوث المقدّس/المحرّم، «مربع الدفاع الاخير». صحيح وثابت أنّ (هذا) العمق الشعبي يمارس نفاقا اجتماعيا مرضيا خطيرًا، حين لا يملك جرأة سؤال البنت عن مصدر المال الوفير الذي يفوق مرتبها ما دامت تحترم «ظاهر الأخلاق» الاجتماعيّة، وأساسًا تصرف بسخاء وتوفر ما يلزم من المال لشقيقها العاطل عن العمل. كل هذا النفاق المتبادل مشروط بوجوب السرية. هو (أي الشقيق) يتظاهر بعدم العلم في حين تتظاهر الفتاة بعدم الفعل…

 

أزمة النخب الحاكمة بما فيها الباجي وقرارته الاخيرة ومعه لفيف من العلمانيين وبعض أنصار الحداثة، أنّهم يتخيلون بالقدرة على جر هذا «الاسلام الاجتماعي» (وعمقه الشعبي) الى مربع «العقلانية»، أو أنّ توصيفه بنعوت مثل «التخلف» أو «الجهل» و«الرجعية» كفيل بنقل الصراع من مرتبة التفاعل/الصراع الاجتماعي (المحلي) الى مدارات التسليم اتفاقية «السيداو»، والركوع لها والسجود أمامها، وهي التي تقر جميع اشكال المساواة دون حدود او تحفظ…

صحيح ان بورقيبة فعلها وأعلن مجلة الاحوال الشخصية واستطاع بالحيلة والقانون تركيع المجتمع المحافظ. لكن حال المجتمع اليوم ليست حال مجتمع 56 المبهر بما هو «المجاهد الاكبر». مع حفظ المقامات واحترام المناصب، جزء غير هين من عمق هذا «الاسلام الاجتماعي» لا يرى في الباجي ما رأى آباؤهم واجدادهم في بورقيبة. بورقيبة ورث سطوة البايات وسيطرة فرنسا معطوفا كلّه على وهج الاستقلال بل هو «المهدي المنتظر».

 

أي مقام واين مقام الباجي (مقارنة ببورقيبة) مع عمق «الاسلام الاجتماعي» راهنا؟؟؟ منذ الدولة الحفصية الى خطاب الباجي يوم 13 اوت 2017، لا مسؤول قرأ لهذا العمق الشعبي حسابه. نخب سياسية تتحدث وتعمل وفق منصب الوصاية ونخب ثقافية تتخيل أنّ تفوقها المعرفي ومقامها الادراكي هو قالب للموازين بالضرورة.

 

غياب راشد الغنوشي دليل واضح على أن الرجل يعلم بالحدس والذكاء وحتى الفطرة، أنّ قوة الحركة على المستوى الشعبي لا تكمن في التنظير والحديث عن الجنة والنار ونواقض الوضوء، بل في حجم التقاطع مع هذا الاسلام الاجتماعي، حين عملت النهضة ولا تزال على تعميق مساحة التقاطع. لا يعلم الباجي الذي يريد ان يكون صورة من بورقيبة ولا تعلم بشرى بلحاج حميدة بحكم الثقافة والهوى الايديولوجي أن العمق الشعبي ينظر بعين الريبة والشك الى الأوروبي الذي أسلم، لان المواضيع القائمة على الجنس لا تقبل الحلول الوسطى ولا تحتمل «الشكّ» حين عوّض المسلم/العربي/المشرقي، كما في رائعة الكاتب السوداني الطيّب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» التفوّق الغربي في المجالات العسكريّة والعلميّة، بتفوّق الجنس، حين قال البطل في الرواية أنّ «له من المدافع ما تغلّب بها على مدافع الانكليز» وأنّه فتح بلادهم بسلاحه (أيّ ذكره).

غلاة العلمانيّة في تونس وفي كامل البلاد الاسلاميّة، قد يتركون الصلاة والصوم والزكاة وما تبقّى من أركان الإسلام، دون «ختان» أبنائهم لارتباط صورة الختان» بما هي «الفحولة» (في أشدّ قوّتها)، في مقابل صورة الغربي/الأوروبي (الذي لم يعرف الختان) الذي يأتي دون قدرة المسلم الجنسيّة بطبيعة الحال!!!!!

 

هي كرة سترتطم بكلّ ما وقف في طريقها. عمق شعبي سيزداد انغلاقًا ومن ثمّة قطيعة مع «الدولة الرسميّة» ومثقفون في أبراجهم العاجيّة يسطرون لهذا العمق الشعبي ويفكرون بدلا عنه، والغنوشي أشبه بالذئب، الذي يطاوع الطرفين ولن يقفز في هذا الاتجاه أو تلك سوى في أخر لحظة…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي