قيس سعيد: الطريق سالك إلى قرطاج؟؟؟

16 مارس 2024

يحتاج الأكاديمي المتابع للشأن السياسي في تونس، إلى إعادة قراءة النظريّات العلميّة، بما فيها تلك التي أثبتت جدواها على مرّ الأزمان والعصور، حين تبيّن أنّ هذا الواقع عصيّ عن التطويع وفق أيّ نظريّة كانت.

أحزاب دخلت فترة سبات تجاوزت الفصول جميعها، لتطلّ برأسها بعد أنّ استقطعت «استفاقة» لتعلن وجودها عبر «موقف»، من الانتخابات الرئاسيّة القادمة، تريد من ورائه إثبات نظريّة : «أنا أعبّر عن موقف، إذا أنا موجود» على ساحة ضاق فيها الفعل السياسي فيها لينحصر في جملة من المنابر الإعلاميّة يؤمنها من يحترفون «صناعة الفرجة» في معناها التلفزيوني أيّ التفريج عن التوتّر والتخفيف من حدّة الصراع، إن لم نقل الإلهاء عن منغصات الحياة اليوميّة، لتتولّى هذه «الزعامات الفرجويّة» صناعة «القرار السياسي»، عندما تحوّلت إلى الجهة الوحيدة القادرة على إيصال «صوت السياسي» إلى «أذن المتلقّي» وأكثر من ذلك ضمان «الاستقرار في وعيه» (وفق قاعدة الخدمة مدفوعة الأجر)…

وسط هذا «الركح السياسي» حيث من يدير «الفرجة» لا يظهر بالضرورة للعلن، تكون قراءة المشهد برمته، ضمن نظريّة «نصف الكأس الفارغ» أي ترتيب الفاعلين على قاعدة «الأقلّ سوءا» وليس «الأفضل» بالضرورة.

أمام ما يزيد عن 250 تشكيلا سياسيّا مسجّل على دفاتر الجهات المخوّلة بتمكين هذه الكيانات من تراخيص العمل، لا نرى «أدغالا» بفعل هذه الكثرة وقد علا الغبار بفعل نشاطها، بل هي «صحراء التتر» على قول الكاتب الإيطالي «دينو بوزاتي» حين يتحوّل الترقّب غاية في ذاته، مع يقين لا يهتزّ بأن لا أحد أتٍ من وراء السراب…

على الركح يتبارى «أعداء الانقلاب» أو هم يحاولون التباري مع أضداد لهم، أو هم يتخيّلون ذلك. في حين يرى «أنصار التصحيح» أنّ لا أحد يرتقي من «أقزام المرحلة» ليمتلك أحقيّة الجلوس قبالتهم.

وضع يجمع على مستوى الفرجة بين طرفين فاعلين على المستوى السياسي، لكن لا أحد منهما يملك قدرة أو طاقة اعتبار الأخر «شريكا» أو حتّى «صاحب حقّ» في التنفّس تحت شمس هذه البلاد.

ليست الصورة بمثل الصفاء المتخيّل أو ذلك الذي تسعى «المنابر الإعلاميّة» إلى الترويج له، أيّ تقابل بين طرفين كلّ منهما مكتمل الشروط.

Kais-Saiedالطرف الذي يعلن (ولا يزال) أنّه «ضدّ لانقلاب»، وإن اشترك جميع من جلسوا تحت الراية في ظاهر الخطاب، إلاّ أنّ الفروقات التي تشقّ صفوفهم أكبر من أن تختفي بفعل رفع الصوت، حين يشترك الجميع في الرغبة في «إقصاء قيس سعيّد»، ويختلفون عند اختيار الأسلوب الواجب اتّباعه، بين من وقف دماغه عند 24 جويلية، رافضًا أيّ تراجع مهما كان، وبين من يرون في الانتخابات التي أقرّها «صاحب الانقلاب» مدخلا للعود إلى «الديمقراطيّة»، دون إغفال من يرى أنّ «الحلف ضدّ الانقلاب» ينتهي عند إزاحة قيس سعيّد، ولا يتمادى خلف ذلك قيد أنملة.

الرغبة أو هو الحلم أو حتى الخيال المنزوع من الحدود، بأنّ معاداة قيس سعيّد تكفي لتشكيل «جبهة عريضة» تمثّل الوعاء القادر على دمج جميع الطاقات، وتحفيزها لتكون قادرة على «إرجاع ما ضاع بالانقلاب» من خلال «ديمقراطيّة» جاء بها «المنقلب»، مجرّد حلم يقظة…

وفق هذا المشهد السريالي، يبدو قيس سعيّد غير منزعج من تشتّت خصومه أو هم الأعداء، ليكون السؤال المصيري عن قدرة «اللعبة الانتخابيّة» على تجاوز الفخاخ المنصوبة من الخارج (مثل تبيّن من «وثائقي» تلك القناة الفرنسيّة) والتي تهدّد الطرفين.

فوق هذا الركح، لا يؤدّي الجميع الدور ذاته. تبرز «الفريق الرئاسي» في مقابل «النهضة وأخواتها» مع بروز «اتّحاد الشغل» في دور المعدّل المحترم لدوره، بينما تفضّل أطراف أخرى مثل «اتّحاد الأعراف» تفادي «أضواء الركح» مؤقتًا.

بقدر ما مثّل الاهتمام الإقليمي كما الدولي، بمشاكل أخرى يبدو ما يجري في تونس أمامها (بلغة المسرح دائمًا) مجرّد «فسحة» بين فصلين في مسرح درامي (بالمفهوم الاغريقي)، بقدر ما هو التراوح داخل البلاد (داخل السلطة أيضًا) في فهم متناقض، بين من يعتبر الأمر فرصة لفعل ما يشاء دون رقيب أو حسيب وبين من قد (ونقول قد) يراها فرصة لتصفية الخلافات بكثير من الحسنى وما تيسّر من التنازلات المتبادلة، على أساس أنّ «المواجهة» في تونس في حال قامن، «ترف» لا قدرة لأحد عليه…

في قراءة أخرى تبدو تونس ملزمة بدخول التقاطعات الاقليميّة أوّلا والوقوف عند التجاذبات الدوليّة ثانيا، خارج منطق «من لا طعم ولا رائحة ولا لون له»، حين ترفض هذه التقاطعات وهذه التجاذبات «الحياد»، وتعتبره أخطر من الاصطفاف مع الضدّ، في حال لا يملك هذا «المحايد» ما يلزم من الجأش والقوّة ما يجعل الأطراف أخرى تخشاه.

قليلون هم في تونس، من رجال السياسة بمعنى الفعل والمراكمة ومسك القرار، من يملكون قدرة قراءة العاملين الإقليمي كما الدولي، خارج الأفق المحلّي الضيّق، بل كثير منهم ينطلق من ذاته، معتبرًا أنّ شخصه مركز الكون، والجميع يطوف حوله.

بين يعتبر أنّ مجرّد الاقدام على قراءة العالم وفق نظريّة الدوائر أي المحلّي والإقليمي كما الدولي، خيانة لما يرون أنّه «استقلال القرار الوطني»، ويزايدون في الأمر، وبين من يرون أنّ زرقة السماء كما زقزقة العصافير لا تأتيان سوى بأمر من الخارج، تقف ساحة بأكملها لا تزال تتخيّل أنها قادرة على صناعة التاريخ وصياغة وعي الآخرين بوجودها، وفق ما تريد اسقاطه على جميع من حولها.

في زمن ولّت فيه المعجزات، وصرنا أقرب إلى الأسلوب البنيوي في قراءة الأحداث، أيّ أنّ نبتة اللفت لا تنبت القرنفل والخنازير عاجزة عن أن تلد الأسود، يغرق الوضع في تونس بفعل نخبته السياسيّة أكثر فأكثر ضمن مستنقع «الأحلام اللذيذة» التي ترتدّ عند الاستفاقة من «السباب السنوي» أفظع الكوابيس لديهم، أي دوام قيس سعيد في قصر قرطاج من خلال انتخابات غادروها يد فارغة والأخرى لا شيء فيها.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي