الجزائر، بين متطلبات عاجلة واستحقاقات مؤجلة.

22 فبراير 2024

يكفي لأيّ كان أن يبسط خارطة القارّة الافريقيّة أمامه حتّى تبدو له عديد الملاحظات، أهمّها أنّ الجزائر دون غيرها من يملك حدودًا مع جميع دول المغرب العربي الأخرى، وبالتالي لا معنى لهذا التكتّل السياسي دون الجزائر.

الملاحظة الثانية تكمن في أنّ الجزائر تمثّل الدولة «الشماليّة» الأكثر انغماسًا داخل منطقة الساحل والصحراء، ممّا يمكّن من القول بمعنى الجزم، أنّ هذا البلد، مؤهل للعب الدور ذاته، سواء شمال الصحراء أو جنوبها.

هذه المكانة الفريدة جغرافيا، ترفدها إرادة جزائريّة راهنة، بتثمين الموقع الجغرافي على أساس العلاقات التاريخيّة مع دول المنطقة، خاصّة وأنّ الجزائر (الثورة ومن بعدها الدولة) كانت ولا تزال تحتفظ بعلاقات جيّدة مع أغلب دول المغرب العربي كما هو الحال مع دول جنوب الصحراء الكبرى.

هذا الواقع الجغرافي المتميّز، معطوفًا على إرث تاريخي عميق وثريّ، يمكّن دولة الجزائر الراهنة من قدرة كبيرة للانطلاق نحو وداخل محيطها الجغرافي المباشر، من أجل إقامة علاقات تقوم على الاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة.

تشارك جميع دول الجوار، أو بالأحرى الغالبيّة الغالبة منها، قناعة الجزائر أنّ التعاون في معناه العميق والفاعل، يتجاوز (أو بالأحرى وجب أن يتجاوز لدى البعض) البُعد البروتوكولي وما هي ديباجة الخطاب السياسي أحيانًا، ليكون حقيقة فاعلة.

الجزائر تملك رأسمالا لا يُقدّر بثمن، يمكّنها من الانطلاق نحو محيط مغاربي وعمق افريقي، وهو اليقين الذي رسّخته ثورة نوفمبر المجيد، بعدميّة أي علاقة تقوم على الاستغلال مهما كان شكله، تتأسّس على إذلال الشعوب الأخرى كيفما كان هذا الإذلال، حين أثبت التاريخ أنّ الشعوب المستضعفة لم تقم إلى استقلالها بحثًا عن مكاسب ماديّة، بل كانت ثورات من أجل الحقوق المشروعة والعيش الكريم.

الناظر إلى الواقع التاريخي القريب في المنطقة، أيّ دول المغرب العربي كما دول الساحل والصحراء، يجد دون الحاجة إلى جهد كبير، أنّ الدول الاستعماريّة التي وإن استبدلت سيطرتها الكاملة واحتلالها للبلدان بعمليّة استقلال صوريّة، تجد نفسها اليوم مطرودة، بل هي عاجزة عن المحافظة على وجودها العسكري ومن ثمّة احتكار السيطرة على اقتصاد عديد الدول، التي قامت شعوبها وانطلقت نخبها تطالب هذا المستعمر أن يرحل بطمّ طميمه، بمعنى أنّ وجوده «غير مرغوب فيه» باللغة الدبلوماسيّة، أو هو «الطرد» وفق الشعارات التي ارتفعت في دول مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو.

هو منطق جديد وروح وافدة هي الأخرى، بل هي قناعة بدأت تترسّخ وقد تعمّقت في الجزائر وقد أصبحت يقينًا، بأنّ مصلحة أيّ دولة من هذه الدول المجاورة لها، يهمّ أيّ دولة مجاورة أخرى، وبالتالي لا معنى ولا جدوى من إقامة أيّ جار لجدران الصدّ وسدود الفصل، على أساس القطيعة مع الدول المجاورة. مع اعتبار أنّ مفهوم «الجوار» يتجاوز الوضع الجغرافي أيّ تقاسم الحدود للحديث عن حدّ أدنى من الاطمئنان المتبادل.

هو واقع متحرّك، بل وغير مستقرّ وليس بالصفاء الذي يأمله سكّان هذه الدول : الفقر والخصاصة يمثلان وجهًا من وجوه الواقع اليومي في عديد البلدان، إضافة إلى «إرهاب» وما يوازيه ويتناسق معه من «جريمة منظّمة» وأساسًا «متجاوزة للحدود»، ممّا يجعل التهديد متراوحًا بين استدامة الخراب، من ناحية، وفقدان بعض الدول السيطرة على بعض أطرافها من ناحية أخرى، ممّا يجعل «الهمّ» الأوّل بل الأساسي منحصرا في جهد الوقوف ضدّ هذا «الإرهاب» والجهات الرديفة له للحفاظ على وحدة الدولة القُطريّة على الأقلّ، دون التفكير في التحديات الأخرى من فقر وخصاصة وتراجع جميع مؤشرات التنمية.

على هذا الأساس، جاء قرار الجزائر بالتدخّل في دول الساحل والصحراء، بتركيز محطات شمسيّة لإنتاج الكهرباء وبتشييد مستشفيات في المناطق الأشدّ عوزًا، وغير ذلك من البرامج الانسانيّة المماثلة، ليكون اليقين في الجزائر، بأنّ الأمر لا يتعدّى التأسيس لخطاب سياسي جديد، يتطلب (في الوقت الحاضر) ويرمي مع الوقت إلى قلب الأوضاع في الفضاءات المجاورة من فقر مدقع إلى يسر عميم.

تعلم الجزائر بل دفعت ثمنًا لذلك على مدى عشريّة كاملة، أنّ السدّ الأوّل والأهمّ والواقي الأساسي، الفعلي والفاعل، من «الإرهاب» يكمن في إقامة مجتمع «تحلو فيه الحياة» ويتحوّل «العنف تجاه السلطة» من «خيار ممكن» إلى «أمر محرّم/مجرّم».

رغم القضاء التام والكامل على «الإرهاب الداخلي» لا يزال العقل الأمني/العسكري في الجزائر يرى خطرًا في «الإرهاب» المستشري جنوب الصحراء على اعتباره مهدّدا لاستقرار البلاد، خاصّة وأنّه تحوّل إلى «صاحب اليد العليا» كما هو الشأن في العديد من دول جنوب الصحراء.

يبدو الأمر صعبا، وهو كذلك بالتأكيد. لم تكن عمليّة اقتلاع «الإرهاب» من الجزائر نزهة ربيع رائقة، لكنّها لم تكن لتنجح دون طرح سياسي جديد ومقاربة مجتمعيّة بديلة..

يمكن قراءة قرار الجزائر باستحداث 4 مناطق للتبادل الحر دفعة واحدة على ولاية تندوف وأخرى على ولاية تيمياوين، على حدود موريتانيا، وولاية تينزواتين على الحدود المالية، ومركز عبور «طالب العربي» على الحدود الشرقية مع تونس، وفق طيف واسعا جدّا من القراءات.

أوّله أنّه قرار يحمل بعدًا اقتصاديا مباشر، حيث سيمكّن هذه المناطق من رفع قيمة المبادلات مع البلدان المذكورة، وثانيا هي وسيلة للقضاء على التهريب، الذي يمثّل التربة الأولى التي تعشّش فيه «الجريمة المنظمة المتجاوزة للأقطار»، وثالثًا هي ضربة موجهة للإرهاب بتوفير مواطن شغل لشباب ملّ البطالة، دون أن ننسى أنّ التهريب يمثّل الرافد الأهمّ والوقود الذي به يدور محرّك الإرهاب…

عند توسيع دائرة الرؤية وتعميق أدوات التحليل، تبدو أنّ منطقة المغرب العربي معطوفا على الساحل والصحراء، لا تزال متقلّبة أو هي في أقلّ التقدير متوتّرة. بدءا بالقطر الليبي، الذي وإن هدأ فيه الرصاص، إلاّ أنّ المعادلة تبدو دون حلّ فعلي وفاعل في الأفق القريب أو المتوسّط. مرورًا بتونس التي تعيش صراعًا صامتًا، لا يتفقّ أطرافه بشأن حدوده، أو مجال الفعل وردّ الفعل فيه، وسط أزمة اقتصاديّة خانقة، حين ينحصر الهمّ (لدى السلطة) في عدم تفاقم الوضع وتراجع المؤشرات الاقتصاديّة، دون أن ننسى «حلف دول الساحل» الذي أنشأته مالي بمعيّة كلّ من النيجر وبوركينا فاصو، وما تبعه من مغادرة الثلاثي لتجمّع «إيكواس»، حين لا تزال تحديات الإرهاب ذاتها أو هي في ارتفاع أحيانًا وسط وضع اقتصادي هشّ لدول هذه المجموعة التي لا تملك منفذًا على البحر، وبالتالي هي مجبرة على التعاطي مع الأجوار مهما كان وضعها هي أو الوضع العام في المنطقة. دون أن ننسى تقاطع مصالح عديد الدول غير المنتمية إلى المنطقة ووقوف بعضها ضدّ بعض، مع ما يعني ذلك من تداخل في المصالح وتضاربها أيضًا.

تجد الجزائر نفسها أشبه بقائد أوركسترا المجبر على مساعدة كلّ موسيقار على ترميم أداة عزفه، وفي الآن ذاته الحفاظ على حدّ أدنى من التجانس عند العزف الجماعي، إن لم يكن ضرورة تحسين أداء الفرد ومردود المجموعة…

اليقين قائم في الجزائر العاصمة أنّ لا وجود لعصا سحريّة قادرة على حلّ جميع المعضلات دفعة واحدة، لكنّ في الوجه الآخر للعملة ذاتها، تعي الدول المحيطة بالجزائر وذات الاهتمام بهذه التحديّات، أهمية دور هذا الجار (أي الجزائر) ووجوب الانفتاح على جهوده في حلّ سلسلة الأزمات الداخليّة، حين اليقين قائم لدى جميع الأطراف في جميع الدول المعنيّة، أنّ السياسة الجزائريّة لا تقوم على الانحياز إلى جانب أيّ طرف، وبالتالي تترفّع عن لعب دور «الراعي» لطرف في معاداة الأطراف الأخرى.

لذلك تملك الجزائر أفضل الأوراق للوساطة وإن كان بصفة تدريجيّة نحو حلول سياسيّة يرعاها تبادل اقتصادي يرتفع هو كذلك بصفة تدريجيّة…

من نافلة القول أنّ الجزائر ليست في خيار بين «التدخّل»، مهما كان التعريف الممكن والمحتمل لهذا اللفظ الفضفاض، من جهة، أو في المقابل الانزواء داخل الحدود، أيّ بناء ساتر بالمعنى المادّي المباشر للكلمة.

الجزائر «مجبرة» على «التدخّل» في محيطها سواء الجغرافي المباشر، أو بالمعنى الاستراتيجي، حين صار من اليقين لدى أصحاب القرار في الجزائر، أنّ «ملء الفراغات» واجب أكيد، بل يبقى الشكل وتحديد الشروط.

من المعضلات التي تقف أمام لعب الجزائر دورًا فاعلا وفعّالا في المنطقة، أنّ قدرة اقتصادها على انتاج حاجيات الدول المجاورة وما تستحقّه لتشييد بنية تحتيّة تمكّن من التأسيس لاقتصاد صلب أو هو من المتانة ما يؤمن البلاد ضدّ أيّ تقلّبات مهما كانت، ليست بمستوى يمكّن الجزائر من لعب الأدوار الأولى أو المحدّدة لمجرى الأشياء فيها.

كذلك يمثّل غياب قطاع خاصّ في الجزائر يملك من التجربة ويوفّر من التمويل، ما يمكّنه من تلبية جميع أو أوسع طيف ممكن من متطلبات الدول المجاورة، عائقًا أمام ما يريده العقل السياسي.

يتطلب نجاح السياسة الجزائريّة تجاه دول الجوار، الاستثمار في القطاعات الاستراتيجيّة، والتحوّل إلى عنصر استقرار في هذه البلدان، ممّا يحول دون السقوط في دوامة الخصاصة التي تمثل المدخل الرئيسي لتدهور الوضع الاجتماعي في هذه الدولة أو تلك، مع ما يعني ذلك من تهديد للأمن والاستقرار في الجزائر.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي