«منافقو» البعثة و«مطبّعو» المرحلة : ذات الخطاب… ذات المصير…

28 أكتوبر 2023

يؤدّي المطبّعون في هذا العصر الدور الذي كان يلعبه المنافقون زمن البعثة المحمّديّة، حين يأتي الطرفان خنجرًا في ظهر الأمّة، وطابورًا خامسًا في خدمة يهود المدينة المنوّرة وسادة قريّش سابقًا، وفي ركاب الصهاينة وساداتهم من الأمريكان راهنًا.

مع فارق أنّ الرسول ﷺ حسم في الأمر وأخرجهم من الملّة، في حين تحوّل التطبيع راهنًا إلى مجرّد «وجهة نظر»، ليس فقط يستحقّ الاحترام ويستوجب التقدير، بل (وهنا الخطورة) هو منازل تتراوح بين أن «التطبيع» لنا منه منافع شتّى، وأخر مذموم، يأتيه مطبعون أخرون على اعتبار أنّ هذا «التطبيع الفظّ» يمثّل خطرًا على الأمّة وأشدّ من ذلك يهدّد «المشروع»، أيّ الرسالة المحمّديّة زمن البعثة و«المقاومة» في الوقت الراهن.

لفهم مدى تدهور الفكر العربي المعاصر راهنًا، نتخيّل مجرّد الخيال أنّ يتمّ زمن الرسول ﷺ التفريق في جلاء والتمييز في دقّة، بين «منافقين»، يصيب الإسلام والمسلمون منهم نفعًا، وآخرون يمثّلون خطرًا على «المشروع»، أيّ البعثة المحمديّة

Doha-towerوجب التأكيد بدءا، أنّ في استثناء للبنان أين يحارب حزب الله وفق حساباته الشخصيّة وأجندة لا يعلمها سواه، واليمن التي تجرّأت على إرسال صواريخ ومسيّرات على دولة الكيان، دون أن ننسى العراق، التي تشهد حدوده مع «دولة المواجهة» الأردن ضغطا شعبيا مفتوح على احتمالات، قادرة على قلب المعادلات القائمة راهنًا في المنطقة، بقيّة الأقطار العربيّة، دون استثناء، دون المأمول أو ما يستوجب الظرف، وإن كان (في أدناه) استدعاء السفراء من دول العدوان على غزّة.

وجب التمييز ضمن بقية الدول العربيّة، بين دول «لا خير يُذكر ولا شرّ يُنكر»، أيّ أنّ وجودها يساوي غيابها، حين لم نر منها سوى «مظاهرات» أقرب إلى رفع العتب وأداء الحدّ الأدنى المطلوب، من الانخراط فعلا ضمن منظومة تقدّم الإضافة المطلوبة، من ناحية، ودول التطبيع التي مكّنت الكيان الغاصب من صكوك على بياض لتدمير غزّة واقتلاع المقاومة من جذورها، من ناحية أخرى.

من أجل فهم خطورة التأسيس لسلّم قياس، بين التطبيع «السائل» في مقابل التطبيع «الصلب»، وجب التأكيد على أنّ النسخة الصلبة هي أشبه بالصهيونيّة المفضوحة التي نراها تدمّر غزّة دون توقّف، في حين أنّ «السائل» منها يسعى إلى استبعاد الفلسطينيين من أراضيهم دون إراقة قطرة دم، لينقرض جميعهم جوعًا وعطشا.

يدفع أنصار «التطبيع السائل» تهمة العمالة عنهم بالقول أنّهم «يقدّمون نفعًا»، حين يلعبون دور الوسيط الذي يرفع الغبن (أو بعضه) عن الشعب الفلسطيني، وأنّهم (وهنا الخطورة) يتحرّكون ضمن دائرة الممكن، حين لا فائدة (وفق ذات الرأي) من العنتريات والمجاهرة بالعنف (مهما كان شكله)، وأنّ العبرة بالنتائج، حين لا قدرة لأيّ كان على لعب دور «بطولة» لا يقدّم نفعًا…

دولة قطر مثلا التي تمثّل الصورة الأبهى والممثّل «الأرقى» لهذا «المذهب السياسي» تلعب في خفّة ونشاط ضمن دائرة التقاطع بين الفرقاء جميعهم، على اعتبار أنّ تلك هي «تجارتها» التي درّت عليها «أرباحا سياسيّة» هائلة، والأهمّ أنّها راضية بهذا الدور وهي تعلم أنّ لا قدرة لها على اللعب مع الكبار مباشرة فوق رقعة الشطرنج السياسيّة.

دولة قطر هذه، التي تلعب دور «الفازلين» في الشرق الأوسط راهنًا، كان لها أدوار أخرى في سورية مثلا، حيث تخلّت عن دور «المسهّل» [الفازلين] لتتحوّل إلى حمّالة قرابة ألفي مليار دولار، بحسب شهادة حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، الذي أكّد أنّ بلاده موّلت جزءا غير هيّن، إن لم نقل مجمل الأسلحة التي دخلت سورية طوال سنوات طويلة.

 

ليس المجال للدفاع عن النظام السوري، الذي يتحمّل جزءا غير هيّن من مسؤوليّة ما جدّ في بلاده، بل للجزم أنّ دور قطر لم يكن يرمي لتأسيس «ديمقراطيّة» مفقودة في هذه الإمارة، أو ضمان احترام حقوق الإنسان، من قبل بلد ينزع من «الوافد» مفهوم «المواطنة».

من ذلك يتأكّد أن دور «جسر العبور» بين جميع الأطراف الفاعلة في الشرق الأوسط، ليس خيارًا استراتيجيا، بل مجرّد «دور» أملته ظروف المرحلة (أيّ الولايات المتّحدة)، لتعاود هذه الإمارة دور «مموّل الثورات» وإسالة الدماء وهدم بلدان بكاملها في حال دعت الحاجة، وإن استلزم الأمر الاعتماد على «تنظيم النصرة» المصنّف وفق الأمم المتحدة ضمن «التنظيمات الارهابيّة»…

ثبت بالدلائل العلميّة القاطعة أنّ «التطبيع السائل» أشدّ خطرًا ألف مرّة من نظيره «الصلب».

لفهم الفارق وتبيان المدى الفاصل بين الشكلين، أنّ الدور الموكل لدولة الإمارات العربيّة المتّحدة، يكمن في «التطرّف» ضمن مسار التطبيع الذي أقدمت عليه. حجم المعارضة الذي تلقاه هذه الدولة، سواء ضمن الفضاء العربي أو الإسلامي، هائل. قلائل من يملكون جرأة الاصداح بالرأي (دون لفافة من الدولارات) تأييدا لهذه الدولة.

في حين تملك دولة قطر عمقًا شعبيا هائلا، يكره «الجار اللدود» أيّ دولة الإمارات العربيّة، بل يلعنون التطبيع الذي أقدمت عليه…

الخطر أنّ هذا العمق الشعبي الإخواني في غالبيته الغالبة، أخرج «التطبيع» من اعتباره «جريمة في ذاتها» إلى التعامل معها وفق ألوان الطيف القائمة في مجال التطبيع.

هناك إذا «تطبيع محمود» بل مطلوب، إن لم نقل «فرض عين» أي أن العقاب نازل يوم القيامة على من تركه ولم يعمد إليه.

هي حالة مرضيّة من قبل «إسلاميين» أو من يقدّمون ذواتهم على هذه الصورة، أو هم يعمدون إلى خطاب إسلامي، حين تتأسّس أداة التقييم عندهم على قاعدة الحاجة التي تلبّيها قنوات «التطبيع السائل» وليس حول المرجعيّة الدينيّة لهذه الممارسة.

هناك من يرى أنّ محاورة الصهاينة واجب للتعرّف عليهم وتعريتهم ومن ثمّة نزع ورقة التوت عن سيئات أعمالهم، وهناك من اعتبر أنّ الصحفي أشبه برجل الأمن الذي يجري تحقيقا حول جريمة، فهو مجبر على «استنطاق» القاتل، وبالتالي لا خطأ ولا هم يفرحون من وراء «الحوار» مع الصهاينة. أخطر من الأمثلة شيوع هذا الرأي وانتشاره.

السقوط في منطق التبرير بوجوب اعتماد نظرة «واقعيّة» تقطع مع «الفقه الإسلامي» الذي يؤكد أنّ الأصل يكمن في المرجعيّة الدينيّة الثابتة بثبوت النصّ، وليس تأويل الواقع وفق قانون المصلحة.

طيف واسع من الإخوان (وليس جميعهم) سقط منذ سنوات في مستنقع التبرير بالواقع للتردّي ضمن ما يمكن أن نسميه «فقه المحرّمات» أي إجازة «تعاطي المحظور» مثل القبول بالتطبيع (وفق ضروريات المرحلة)، ومن ثمّة صار الجهد المبذول من قبل هذا النهج السياسي منحصرًا في البحث عن تقاطعات ممكنة أو هي بالأحرى مختلقة بين ما يقولون أنّها «اكراهات الواقع» من جهة، ووجوب الاحتفاظ بمرجعيّة «اسلاميّة» الضامنة (دون غيرها) لما تحتاجه من «رأسمال» رمزي، الذي بدونه تبور «التجارة» بكاملها.

ختامًا، علينا أن نتخيّل (مجرّد الخيال) أنّ زمن البعثة المحمديّة، هناك من معاصري تلك الفترة، من يقوم بتبرير الشكل «السائل» من النفاق، وفي الآن ذاته، يقوم بتكفير الشكل «الصلب»….

حين نؤمن أنّ «التطبيع» درجات، وبالتالي علينا أن نعيد كتابة تاريخ البعثة واعتبار أنّ من «المنافقين» من هو قادر على تقديم النفع للمشروع الذي جاء به الرسول ﷺ… عبد الله بن سلول مثلا…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي