الجزائر داخل الديمقراطية وخارج «الربيع العربي/العبري»…

27 فبراير 2019

تعثرت التجارب الديمقراطيّة أو هي فشلت ضمن الفضاء العربي، لأنّها نشأت وتأسّست وقامت وتعيش وتسير، ومن الأكيد أنّها تتعثّر، على اعتبارها «حالة طوباويّة»، أي تعبير عن «حسن النوايا» وكذلك «صفاء السريرة»، إن لم نقل تماه (مرضي أو هو عن عقدة نقص)، تجاه المرجعيات الغربيّة، الضابطة لنبض السياسات، التي تقرّرها (ما تسمّى) «الشرعيّة الدوليّة»، الماسكة/المانحة لشرعية الجلوس على سدّة الحكم، أو (على الأقلّ) القادرة على تعكير صفو هذه الأنظمة.

52598174_292989484707521_1365807777745731584_nالديمقراطية (في الغرب) الأشدّ استقرارًا من بين ظهرانينا، نشأت على اعتبارها وعي تام وكامل ومكتمل بما هي «عبثيّة العنف» وعدم جدوى اللجوء إلى أيّ صنف من الأسلحة، حين تأكد الجميع، (وفق المثل الروماني) أنّ «من صعد (إلى الحكم) بالسيف، يسقط (من سدّة الحكم) بالسيف (ذاته)».

لذلك نرى ونشهد ونلاحظ أنّ الدول العربيّة التي تدّعي تطبيق الديمقراطيّة، وبالأخصّ تلك التي تفاخر بأنّها في حال «انتقال ديمقراطي»، تعيش واقع انفصام خطير بل شديد الخطورة: آليات «ديمقراطيّة»، سواء على مستوى تأسيس «مؤسّسات ديمقراطيّة» أو اعتماد «الاقتراع» وسيلة لفرز النخب سواء منها التنفيذيّة (رئاسة الدولة) أو التشريعيّة (البرلمان)، إلاّ أنّ خطاب نخبها يأتي أقرب منه إلى العنف اللفظي، دون الحديث عن «عنف الشارع»، المتراوح بين التلويح به، وصولا إلى المغامرة بتفعيله، بل يصل الأمر [كما هو في تونس ومصر] حدّ نفي «الحقّ الديمقراطي» (المعترف به والمعرّف للأطراف الأخرى)، أو اعتبار الخصم غير جدير بالتمتّع بهذه «الديمقراطيّة»، سواء على مستوى «تقديس الذات» (الماضي التليد) أو «تدنيس الطرف المقابل» (مصادرة النوايا أو تأويل التاريخ خارج منطق الديمقراطيّة)…

منذ مغادرة مصالي الحاج المشهد السياسي، وغلبة بل سيطرة «فتية فاتح نوفمبر» على المشهد السياسي/الثوري، لم تتأسّس في الجزائر ما يمكنه أن ندعوها «دكتاتوريّة الفرد» أسوة بالجارتين الملاصقتين للبلد، سواء بورقيبة ومن بعده بن علي في تونس، أو الحكم الملكي الوراثي في المغرب، بل جاء القرار السياسي (دائمًا مع استثناءات محدودة) عبارة عن ملخّص «توازنات» داخل «قارب الحكم» حين يأتي «ماسك الدفّة» مسؤولا عن التنفيذ في حين يشارك جميع من على القارب (بدرجات متفاوتة) في «رسم المسار»…

52859443_292989561374180_7393518967198842880_nكذلك، لم يغادر المخيال الجمعي الجزائري سنوات الثورة وما صاحبها من قمع وقتل وتشريد، بل هي تصفيات عرقيّة، ترقى دون شكّ إلى مرتبة «جرائم ضدّ الانسانيّة» حتّى جاءت «العشريّة السوداء» لتعيد فتح جراح بل عمقتها، حين جاء «القاتل» كما «القتيل»، كلاهما من دم واحد وأصل واحد، وأساسًا من وطن واحد.

من يدرس المجتمع الجزائري جيّدا، يجد دون أدنى حاجة للغوص، يجد تناقضًا غريبا. حين تأتي الرغبة في التغيير السريع والذهاب دون إبطاء نحو «مطالبه» بقدر الحساسيّة الجماعيّة والوعي المشترك، بما هي مخاطر العنف (الداخلي» أو هي الصدامات بين مكوّنات الشعب (الواحد).

 

من صدمته «سلميّة» التظاهرات التي شهدتها البلاد يوم الجمعة 22 فيفري الفارط، عاجز عن فهم طبيعة هذا الشعب، حين سبق لسكّان منطقة «عين صالح» أن نظموا اعتصاما رفضا للغاز الصخري، دام أسابيع عديدة، دون أدنى عنف سواء كان ماديّا أو لفظيّا، بل تحوّل الإعتصام إلى «مجتمع الفضيلة»، القائم على تقاسم لقمة العيش وتوزيع مهام التنظيف دون أدنى حساب للمكانة السياسيّة أو الاجتماعيّة، أو حتّى القبليّة لأيّ كان.

52872288_292989411374195_6642156701241835520_nيمكن الجزم أنّ الوعي الشامل بعبثيّة العنف، بل انقلابه وبالا على من يمارسه، يأتي شرطا أساسيّا لكن غير كاف، لسير البلاد والعباد على درب ديمقراطيّة مفتوحة على احترام الذات البشريّة في البلاد، وتأسيس دولة قويّة بل ذات بأس وشدّة على قاعدة احترام قانون يشارك الجميع (أيّ نوّاب الشعب فعلا وحقيقة) في صياغته.

 

هذا الوعي بما هي «عبثيّة العنف» هو الدافع الذي جعل «ماسك القرار» (مجموعة وليس فردًا)، يتراجع عن ممارسة «العنف الأمني» تجاه المتظاهرين يوم 22 الفارط. هو قرار عقلاني وخلاصة بل هو اليقين، بعجز العنف عن حلّ المعادلة، وكذلك (وهذا الأخطر) أنّ «البادئ بالعنف» سيكون الخاسر الأكبر، بل سيسقط بالضربة القاضية، في ختام هذه المواجهة.

السؤال الذي تطرحه دوائر الحكم في الجزائر، تجاوز أو هو بعيد عن «ترشّح بوتفليقة» من عدمه، بل البحث ضمن الخيارات الممكنة والمطروحة، ومناقشتها ضمن «منطق القارب»، على أساس العود بالقرار من «شارع يغلي» إلى «مكاتب مغلقة»، يكون بإمكانها (هذه المكاتب) أن تخرج بقرار يؤمن استقرار «القارب» كما هو كفيل بإرجاع «الشارع» إلى سالف عهده من «استقالة» طويلة و«تظاهرات» تأتي أقرب إلى «التنفيس» (المدروس) إلى الخطر الحقيقي والداهم.

ضمن المشهد الماثل أمامنا، يأتي العمق الشعبي أشدّ استقرارا من «ماسك القرار» المتراوح بين رغبة في المضيّ دون اعتبار لهذه المتغيرات، هو المضيّ المكلف، أو التراجع الخطير على «منطق الحكم»، حين انعدمت الاحتمالات الأخرى، بل ذهبت أدراج الريح، لينقلب صراع «الشعب/السلطة» إلى صراع بين أجنحة (هذه) السلطة، ذاتها، بين من يرى بوجوب التنفيس (المدروس افتراضا) والقائل بل الجازم بأن «هيكل» (الحكم) أشبه بما هو «قصر الورق». يكفي سحب ورقة واحدة لينهار البناء ويسقط الحكم أرضًا.

 

على حلبة هذا الصراع، أو على دوائرها، يقف شعب، بسيط المطلب بل واضح السؤال. تراجع بوتفليقة عن الترشّح يؤذن بزلزال داخل «منظومة بوتفليقة» حين يمكن الجزم أن هذه «المنظومة» (الحاكمة) عاجزة عن الثبات في غيابه وأساسًا عاجزة (وهنا الخطورة) عن إيجاد «بديل» من داخل هذه «المنظومة» يستطيع ضمان الحدّ الأدنى من «شروط الوجود/الحكم» التي كان يؤمنها بوتفليقة أو بالأحرى وجوده (الصوري) على سدّة الحكم.

هو سباق بين موعد التظاهرة الأضخم يوم الجمعة فاتح مارس القادم، وما تعنيه من تعبئة منتظرة، وسط ارتفاع حجم «التآكل» داخل «منظومة بوتفليقة» بدءا بإعلام (عمومي) كسر أغلاله وفكّ الحبل السرّي الذي يربطه بهذه المنظومة، مرورا ببدء التململ داخا «حزب جبهة التحرير الوطني» وصولا إلى «جيش الشياتة» [المطبلين] الذين يستعدون لمغادرة «قارب بوتفليقة»، بل منهم من وضع رجله على قارب ثان.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي