المسرح وخلفيات دماره…

17 أغسطس 2017

 بقلم حاتم التليلي

مقدّمة:

على خلاف عنوان المقال وفي تجاوز له، يبدو النصّ أو هو بالفعل أقرب إلى «علم النفس الاجتماعي» من «قراء (نقديّة) ما» لما هي «مسرحيّة ما»، حين يعتمد الكاتب حاتم التليلي أسلوب الغوص السيكولوجي بين ثنايا العمل ذاته، وأيضًا «استنطاق» الذات الصانعة للعمل المسرحي في أبداعها الدفينة. كذلك يعمد إلى «الإفاضة» طوافًا بين حشايا «الفعل السياسي» ليس فقط ضمن ابعاده الفكريّة والخطابيّة المؤسّسة (بكسر السين الأولى) للعمل المسرحي أو المستغلة له فقط، بل أيضًا الاسقاطات وكذلك الانتهاز سواء منه «العفوي/الساذج» أو «المقصود/الملغوم»…

نصّ مكثّف، بل شديد التكثيف، يصلح مقاربة وأسلوبًا أن يتطوّر إلى منهاج رؤية وأداة قياس للمسرح ذاته، ولصناعة المسرح في علاقة بدوائر الحياة الأخرى، ليكون رجع الصدى من مسرح واجهة للواقع وتشخيصًا له (تقليدًا) إلى مسرح تعلّة أو جسرًا لتحليل هذا الواقع، إن لم يكن التشريح في أدقّ التفاصيل….

نصر الدين بن حديد

 

 

لنتفّق أوّلا أنّ مهمّات الفنّ أبعد من مصارعة السلطة، عليه أن يخوض عراكا همجيّا وبلا هوادة ضدّ الرغبة في امتلاك السلطة نفسها. ولنتّفق ثانيّا أنّ تقديس الأدلجة، وهيمنتها فكريا وسياسيّا، هو ما يخلق فنّا يقينيّا، فلا نرى مبدعين، إنّما ضرب من القتلة، لا يهدف منجزهم الفنّي إلا إلى اغتيال الآخر. ولنتّفق ثالثا على أنّ ثمّة هذه التراجيديا التي تجد في الغلّ والحسّ الانتقاميّ إقامتها الصرف، ما جعلها تحوّل كلّ من له صلة بالإبداع إلى وحش محض. ولنتّفق رابعا أنّ الله السياسيّ تحوّل بشكل أو بآخر إلى علّة المسرحيّ الأولى، وإلى حمل ثقيل يعرقل أيّ فعل وجوديّ له، وهذا سلوك تراجيدي ينمّ عن عودة القربان واشتغاله في حظيرة الفنّ، ولكنّها عودة محفوفة بالرّعب والخوف، إذ بقدر ما هو قربان دمويّ/ أوموفاجيّ كما كان سائدا منذ قدم القديم في المحافل والكرنفالات الفرجويّة والأسطوريّة بوصفها علّة المسرح الأولى قبل أن يتعقلن فلسفيا وجماليا ووظيفيا، هو الآن يكرّس للعداء ويؤسس لمعركة طاحنة ضدّ قرينه المسرحيّ. سيبدو في هذا الاطار أنّه ثمّة نوع من الطلاق الأبديّ بينهما كرّسته حاجة المجتمع الحديث إلى شكل ما من أشكال الديمقراطية وسياساته التي تدعو إلى التمدّن بدل البربريّة، حتّى أنّ هذا الله صار منبوذا من قوانينه الوضعيّة ما قذف به ليكون طريدة سهلة تتمّ عمليّة احتكارها من قبل «ملّة» رافضة لهذا النمط المجتمعي الحديث، كما شغّلته على نحو وحش يتحرّك بأقدام من فولاذ ليمحو خرائط المدرسة الديمقراطية التي يتنزّل في تخومها الفنّ المسرحيّ. ولنتّفق خامسا أنّ هذا الله السياسيّ لا يقلّ خطورة أيضا عن ذلك المجتمع الحديث: ينتسب هذا المجتمع إلى الحداثة أو يزعم ذلك، ولنفترض جدلا أنّه فعلا ينتسب إليها، أفلا نعرف أنّها محض تتويج لخرافات ذلك الله يهوديا كان أو اسلاميّا أم مسيحيا؟ وألا نعرف أنّها أعلنت عن إفلاس بورصاتها الفكرية والفلسفيّة والعلميّة هي الأخرى؟ ولنتّفق سادسا وأخيرا أيّها المسرحيّ، لقد صرت وحشا بدورك وإلا لماذا تخترع الله في كلّ مرّة داخل أعمالك المسرحيّة كي تطعنه؟ أو لماذا تقترضه من بنوك الارهابيين لتدخله الآن حظيرتك؟ أنت يا صاحبي عاجز عن استنطاق المستقبل عجز حداثتك المزعومة، فإذا بك تخبط في أوديّة دهماء ولم يعد لك غير اختراع عدوّ ما تضفي من خلاله شرعيّة وجودك.

LTإنّ مأساتنا أيّها المسرحيّ تنبع من عجزنا على استنطاق المستقبل، لذلك نحن نعيش تلك النقاط الستّ، أو لنقلها بوضوح، أنت يخيفك أن تعترف بشرّها المطلق إذ تكابر دوما كونك الخير المطلق، الأولى كما الثانيّة تشغيل لواقعيّة «جدانوف المبتذلة»، وسقوط في المباشراتية وإقامة عمياء داخل إناء الفكر المجرّد والزّمن الثابت، وتشريع لمدية تشرّع بدورها لمحنة المتحوّل، والثالثة تجعل من الفنّ المسرحيّ سلاحا محض، أقرب إلى البندقية منه إلى الإبداع، أمّا الرّابع  كما الخامسة فهي تكشف عن فوبيا سياسية مقيتة، نوع من الرّعب الداخلي وهروب من سرديات المقدّس، فإذا بالهروب يتحوّل إلى سقوط، والسقوط إلى نوع من الارتداد إلى الجلاد، أو لنقل هي تكشف عن عجز المسرحي عن كسر المعادلة السياسية القائمة، إذ أنّ سلوكه لا يتعدّى ردّة الفعل البافلوفية ضدّ عدوّه السّلفيّ، فإذا به يتحرّك في أغلال الموت بدوره، ومثلما انتهت التراجيديا بأفول الاله بعد وعود الحداثة الزائفة، فلم تخلّف غير عار ميتافيزيقيّ يلاحق المجتمع الحديث، هي الآن تحاول تشغيل ذاتها بتشغيل ذلك الاله نحو براءته، فإذا بها تنحره من الوريد إلى الوريد. تبقى السادسة وهي من شأن السوق والسياسات الانتاجية والتجارية، إذ أنت تعلم أيّها المسرحيّ أنّ الله السياسيّ هو الآن مثابة «أصل تجاري» يعتمده الجميع ويحاول احتكاره سياسيّا أو فنّيا بصفته الرأس مال الوحيد المربح سواء كان في يد المؤمنين به أم الملحدين حتّى، وتعلم أيضا أنّه بمجرّد الوقوع في حظيرة السوق، لن يكون ثمّة فنّ غير المبتذل منه إذ هو لا يتحرّك إلا بصفته مموضعا ضمن ما اصطلح عليه الفيلسوف «أدرنو» في طور «صناعة الثقافة».

سيكون من اللافت جدّا، أن يسأل بعض المعترضين عن نماذج من الأعمال المسرحيّة التي قد تؤكّد ذلك، وبما أنّها تعدّدت بتعدّد المخرجين والمنتجين والممثلين والأشكال التعبيريّة الجديدة ـ سواء كانت لها مرجعيات أو هي تؤسّس لأمثلة أدائية جديدة أو هي محض شكل فنّي هجين ـ سنتّخذ نموذجا لتبيان ذلك على سبيل المثال لا الحصر، ألا وهو عرض «حوريّة» لليلى طوبال، ونذكّر من جديد أنّنا بصدد تشريحه من زاوية تسليط الضوء على خلفياته أكثر من أيّ شيء آخر، ونقصد بخلفياته تلك الرؤى الجمالية المتحكمة فيه وتصورات صاحبته ومنظوراتها إزاء الفنّ وإزاء الراهن الذي نعيشه، وكيف تمّ تشغيل ذلك.

  • ثمّة أوّلا مفارقة مدهشة في عرض «حورية»، إذ ليس ثمّة اطلاقا نوع من التناسج بين النص وبقيّة عناصره الأخرى، الأوّل رغم كونه يتأتّى من رحم الكتابة الافتراضيّة القائمة على التدوين في الشبكات العنكبوتية وخاصّة الفايسبوك ظلّ منتسبا إلى واقعيّة «جدانوف» وذلك من خلال «المباشرتية»، ما حوّله إلى ما يشبه الخطابات السياسية الراهنة، وهي خطابات تفتقر إلى الحدّ الأدنى من التحليل السياسي فإذا بها قامت على السباب والشتم وقذف التهم. لقد تحوّل الانسان الحداثي في تونس أمام فوبيا الاسلاميين إلى كائن بافلوفيّ، كلّما نزلت مصيبة أو حطّت كارثة قفز إلى المنابر المتاحة له كي يدلي بغضبه وشتائمه ورغبته في قطع أوصال إله المسلمين، ومثلما نرى ذلك في الساحات العامة والمنابر التلفزية ووسائل الاعلام رأيناه أيضا في عرض ليلى طوبال من خلال نصّها الذي حرّكته معاجم التهكّم المقرف (جهاد النكاح/القحط الجنسي/اسلامكم/ربّكم/شيخكم/أوساخكم/قرفكم). لقد تحوّل نص العرض إلى ما يشبه الخطاب السياسيّ المباشر القائم على نزعة ساديّة ضدّ الآخر لا غير، وهذا أمر يغرق العمل الفنّي في السطحيّة، ويجعل منه سلاحا، ويدفعه ليكون مرتبطا بالحدث فيموت بموت الحدث نفسه. أمّا الثاني (وهو مرتبط بباقي عناصر العرض) فهو ينتسب بشكل أو بآخر إلى شكل مسرحيّ غير السّائد، يحاول تشغيل نوع ما من الفنون الأدائية المعاصرة (نسج بنية الخرافة من داخل خرافة أكبر: راديو من خلاله ثمّة برنامج إذاعيّ يسرد سيرة انفجار داخله ومن ثمّة هو ينقطع ليعود فيسرد علينا من خلال منشّطته قصّة حورية وآدم حبيبها (تقنية تقوم على الميتامسرح لسوء حظّ ليلى طوبال نحن لم نر من خلالها حضورا لآلياتها القائمة على التجويف والميتا/ناص والمرآوية)، فلا هو نجح في ذلك ولا هو انتسب إلى نفس المرجعية «الجدانوفيّة» التي قام عليها النصّ، ما خلق مفارقة كبرى داخل العرض حاولت الممثلة تغطيّة ذلك من خلال شحذها جمهور العرض بالخطب الحماسيّة.
  • ثمّة ثانيا تشغيل لظاهرة المظلوميّة، وهو سلوك سياسيّ عوّدنا به المجتمع المدني في تونس نراه الآن في هذا العرض، ألا وهو استحضار الشهداء الذين تمّ اغتيالهم (شكري بلعيد). لقد أطل علينا السياسيون الحداثيون بعد اغتيال رفاقهم في المحافل الانتخابية والكرنفالات السياسية بصور الشهداء، وهو حقّ للأسف أريد به باطل، إذ يتمّ توظيفهم الآن من باب الاستحقاق الانتخابي أو من باب الجدارة بقيادة البلاد، أو لنقلها بصراحة: إن هؤلاء لا علاقة لهم بالشهداء إلا من حيث تقديم أنفسهم كضحايا القمع لا كرجالات تخترق المعادلة السياسية وتقلبها لتنحت المستقبل السياسيّ للبلاد. في معرض كهذا عمدت ليلى طوبال إلى تشغيل نفس السلوك، فكان أن حضر صوت شكري بلعيد في عرضها، وكأنّه لا نجاح لهذا الأخير إلا بتشغيل الشهيد نظرا لرمزيته. على غرار ذلك، وبعد كمّ هائل من الثورة اللغويّة القائمة على السباب والشتم، قدّمت ثورة مضادّة قائمة على النحيب والشكوى والرغبة الملحّة في الفناء والموت تحت سياط الأعداء الإسلاميين، وليس أدلّ على ذلك من صرختها التي وردت كالتالي: «كرهتكم، وكرهت اسلامكم»، أو «أقتلتوني، أرجموني، أنا الزانية..»، أو «ويني تونس، ويني بلادي؟». إنّ نوعا غضبيا كهذا الذي تمّ تشغيله في عرض «حورية» لا ينمّ إلا عن عقيدة يهودية قديمة وشيعيّة حديثة، إذ هو غضب قائم على تشغيل المظلومية، فاليهودي من سردية السبي البابلي إلى محرقة الهولوكست ظلّ يجلب إليه أنظار العالم كي يشفق عليه ليتحوّل فيما بعد إلى صهيونيّ قاتل، أمّا الشّيعيّ فبعد أن باع الحسين إلى يزيد ورمح الشمر ظلّ طيلة حياته منتسبا إلى الحزن، وكما اليساريّ اليوم بعد موت الشهداء نتيجة عجزه أمام تغوّل الدّموي، اسلاميا كان أو حداثيا في ثوب النظام القديم، يقدّم الآن نفسه ضحيّة القمع، تشغّل «طوبال» هذه السرديّة في عرضها «حوريّة».
  • ثمّة ثالثا قبل آخر العرض من «حوريّة» مشهد لبست من خلاله الممثلة الأبيض، ثمّ انحنت على ركبتيها في أوّل الرّكح، وكأنّها في لحظة سجود، صاحبتها في ذلك شذرة نصيّة على لسانها تدعو فيها الوحش الدمويّ/الاسلاميّ إلى رجمها وقتلها لأنّها على غير تعاليمه، وهي في نظره لا تعدو أن تكون إلا الزّانية والعاهرة. ربّ مشهد فاجع ورهيب يذكّرنا بسرديات الدم في العهود الغابرة من الظلم الاسلاميّ وتاريخه المهمّش، ولكن يا لوطأة الضحك، لقد كان المشهد برمّته مستنسخا بطريقة مبتذلة من فيلم الفيلم الأميركي/الإيراني «رجم ثريا»، ومثلما تمّ رجم «ثريا» في إحدى مشاهد ذلك الفيلم لأنّها اقترفت الزّنا، تذهب «طوبال» إلى تقديم مشهد مشابها جدّا لذلك، وهذا سلوك ينمّ عن شيئين لا أكثر، الأول يوحي بفقر كبير في الخيال دفعها إلى الاستنساخ، أمّا الثاني فينمّ عن ظاهرة الانتحال من السينما وتشغيل الكيتش بأخذ الأيقونة وإعادة صناعتها بشيء فيه الكثير من الابتذال.
  • ثمّة رابعا، ما يصطلح عليه الآن من قبل المسرحيين بظاهرة «الكليشيات»، وهو أمر لم يسلم منه هذا العرض أيضا، ويمكننا ملاحظته من خلال مثالين نسوقهما تباعا، الأوّل من خلال لحاف أحمر أخذته الممثلة لتغمض به عيون مرافقها في العرض (عازف البيانو) ومن ثمّة ينطلق في العزف. لقد فعلت ذلك دون أدنى مبرّر دراميّ موجب، وإن هو يفصح على شيء فلن يبعث فينا غير الضحك، إذ هو محاولة في الاستعراض لا غير، وذلك من خلال القدرة على العزف دون النظر إلى الآلة العازفة. أمّا الثاني، فقد تبدّى من خلال الفواصل الاشهارية التي تقطع سيرورة البرنامج الاذاعيّ، حتّى أنّنا رأينا الممثلة في كلّ مرّة تقدّم بضاعة ما لإشهارها، وهي بضاعة قامت على تشغيل المفردات اللغوية المتعلقة بما هو سياسيّ، حتى أنّها بدت مسقطة على العرض ولا دور لها غير التهريج واستجداء الجمهور نحو الضحك والسخرية من أطراف سياسيّة بعينها.
  • عطفا على النقاط الأربع التي وردت سلفا، يمكننا القول بأن جوانب العرض برمّتها قامت على نداء يروم تشغيل الحداثة بدافع التخلّص من الله السياسيّ وكنسه من الوجود، ولكنّ هذا النّداء يخلو من أيّ طابع حداثيّ، إذ هو لم يقدّم لنا مجتمعا حديثا يخرج من ركام الخراب الاسلاميّ أو الدمار الارهابي، بل قدّم لنا مجتمعا أصوليّا وسلفيّا، وهذا ينمّ بشكل أو بآخر عن عجز واضح في استنطاق المسرح للمستقبل، وحيرته، حتّى أنّ مقوّمات وجوده ظلّت مرتبطة تمام الارتباط بوجود الدمّ والأصوليّة.
  • عطفا على النقطة السادسة، أن يعجز المسرح فكريّا وفنّيا بمثل ذلك التصوّر فيرتدّ إلى محاربة الآلهة، هو في الحقيقة لا يريد كنسها أو شطبها، بل يعمد إلى توظيفها وتشغيلها لصالحه كي يتاجر بها مثل تاجر بها الأصوليّ، وهذا سلوك ليبراليّ صرف، لا قوام له غير البعد التجاريّ القائم على سياسات التوزيع.

 

تلك هي نماذج من الخلفيات الفكرية والسياسية والإيديولوجية لمسرحنا الآن، وللأسف فهي وإن كانت ضرورات ملحّة يتعيّن عليه تفكيكها فنّيا وتشريحها إبداعيا، تحوّلت إلى معطّلات ومكابح تفسد رهاناته الجمالية، كما تحوّلت إلى مثابة أصل تجاريّ يتنافس عليه كلّ من السياسيّ والمسرحيّ بغاية الرّبح لا أكثر.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي