المقاومة…. الشكل الأرقى للحداثة المعاصرة…

25 مايو 2023

أمام ضيق مساحة قطاع غزّة وارتفاع الكثافة السكّانيّة، وما هي تضاريس هذه المنطقة المنبسطة العاجزة عن توفير ملاذا طبيعيا مثل الجبال والكهوف، وما هي القدرات التكنولوجيّة للعدوّ الصهيوني أمام هذه الأرض، المحاصرة برّا وبحرًا وجوّا، وأمام نجاحات فصائل المقاومة في غزّة ليس فقط على الصمود، بل (وهنا السؤال) قلب المعادلة من «مفعول به» ليس له من هدف سوى الحدّ من الخسائر وإلحاق ما أمكن من خسائر بالعدوّ، إلى «فاعل» رسّخ معادلة ردع، جعلت قيادات العدوّ تعيد التفكير ألف مرّة قبل مجرّد التفكير في إطلاق رصاصة واحدة. أمام كلّ هذا، يحتاج المراقب العادي إلى تجاوز «منطق» ديكارت وهيغل وحتّى أرسطو، لأنّ أيّ منطق إنساني عاجز كلّ العجز عن تفسير عدم قدرة الطيران الصهيوني عن استهداف جميع مرابض الصواريخ، وسماء القطاع «كتاب مفتوح» أمام عشرات، إن لم نقل المئات من الطائرات سواء الحربيّة النفّاثة أو المسيّرة عند بعد…

العقل البشري العادي، يحتاج علميا إلى الاعتراف بأمرين متلازمين:

أوّلا : أنّ في الأمر «شيء ما» متجاوز للمنطق البشري، يراه الملحد مجرّد تلازم لعامل الصدفة لا غير، في حين يعتقد أيّ مؤمن يقينًا أنّ «يد الله» ترعى هذه المقاومة، وإلاّ لكان طيران العدوّ قادر (في ساعات معدودات) على اسكات جميع منصات الصواريخ، حين غطّى غزّة عديد المرّات ببساط من نار.

ثانيا : أنّ في غزّة، فصيلة من البشر، ليست على شاكلة بقيّة البشر، حين استطاعت فصائل المقاومة (كل منها على حدة، أو مجتمعة) «استنباط» أسلحة قادرة على تحقيق ما شاهد العالم عديد المرّات، وأخرها من خلال مواجهة «ثأر الأحرار»، بقطع النظر عن التوزيع المعتمد على مستوى الأدوار والوظيفة القتاليّة، بين مختلف الفصائل.

صورة أو هو واقع، نراه على شاشات التلفزيون لصواريخ تنطلق بالعشرات والمئات، يدعو إلى الجزم بأنّ قدرة فصائل المقاومة، لا تكمن فقط في ما بدا أمامنا خلال أيّام معدودات مهما طالت، بل (وهنا الأهميّة) أهمّ ألف مرّة، ذلك الجهد اليومي على مدار السنة والأشهر والأسابيع والأيّام، دون أدنى كلل أو أيّ ملل، ليعدّوا ما استطاعوا من قوّة ورباط الصواريخ، ارهبوا به عدوّهم، بل جعلوه يتيقّن يومًا بعد يوم، وساعة بعد أخرى، أنّ ترسانة الأسلحة التي يملكها، رغم قدرتها التدميريّة الهائلة والمتزايدة، عاجزة عن أمرين : كسر شوكة المقاومة، وثانيا، تثمين هذا الدمار الوحشي مكاسب سياسيّة من أيّ صنف كان.

مراجعة الأدبيات الصهيونيّة، تبيّن أنّ هدف إقامة «وطن قومي» لليهود، على حدّ تعبير وزير خارجيّة التاج البريطاني آرثر بلفور، لم يكن يهدف في الأساس، إلى الحفاظ على «شخصيّة اليهودي» الذي عاش قرونا في «غيتو» الأوروبي، بل (وهنا الأهميّة) تأسيس «صبّاريم» (نسبة إلى نبتة الصبّار قوّة وصبرًا) أيّ انسان قادر على ردّ الصاع صاعين وأكثر من ذلك، تخليص «الفرد الصهيوني» من عقدة «غيتو» والانزواء داخله، أيّ ذلك التفكير وتلك الغريزة القائمة على عقدة «من الخارج إلى الداخل»، إلى منطق توسّعي قادر على تحريك «الحدود» حدّ الوصول إلى تحقيق الحلم الصهيوني بالسيطرة على الأرض الواقعة بين الفرات والنيل.

تجسّد معتقد «الصبّاريم» في صورة «الحلم الجماعي» بأن يكون «الإسرائيلي» المقيم في (ما يسمّى) «أرض الميعاد»، ذلك «سوبرمان» القادر بطبيعته على كسر «الأغيار» واستعبادهم أو تصفيتهم عند الحاجة.

رغم المسعى المتواصل لصناعة هذا «الانسان المثالي» بدءا بالتربية في المدارس ونهاية بالانخراط داخل الجيش، لم يحقّق الصهاينة التفوّق القادر على إرضاء نرجسيتهم سوى مرتين. أثناء «النكبة» التي عمدوا خلالها إلى ممارسة ما اختزنت خيالاتهم من صفحات التلمود خاصّة عن إبادة «الأغيار» وثانيا، أثناء «نكسة» حزيران/جوان 1967، حين سيطروا في أيّام معدودات على مساحات أوسع ممّا كانوا احتلوا من قبل.

كانت الفرحة بتحقيق «الحلم» أكبر بكثير من المكاسب ذاتها. وُلد حينها «الصبّاريم» القادر على ربط «الواقع» بما هو «الحلم» الذي تراكم على مدى قرون…

لم تدم هذه النشوة طويلا وهي المسنودة بأسطورة «ماسادا»، تلك القلعة الواقعة جنوب فلسطين، تروّج الأسطورة الصهيونيّة، أن مقاتلين يهود فضلوا الموت على بكرة أبيهم على الاستسلام لجيش «المحتلين الرومان»…

صارت القلعة محجّا إلزاميّا لشباب وجب عليه أخذ العبرة من «الأجداد» والموت من أجل «إسرائيل».

الواقع الماثل أمامنا، يبرز بما لا يدعو للشكّ، أنّ حلم «الصبّاريم» اليهودي، أيّ «سوبرمان» القادر على القيام من رماده، وانتزاع النصر مهما كان الثمن، جسّدته صورة الفلسطيني في غزّة القادر على أن يصنع من العدم سلاحًا ويحقّق نصرا بالمفهومين العسكري والسياسي، عجز الصهاينة عن تأمينه بما يملكون من ترسانة قابلة للتجديد بفعل الدعم السخيّ الأمريكي.

«الفلسطيني» الواقف على حدود غزّة مع فلسطين المحتلّة، أثبت تفوّقه على مستوى المنطق والعقل، حين استطاع ونجح في اطلاق الصواريخ وفق منطق «لا افراط ولا تفريط»، أيّ أنّ العقل الذي أسّس منظومة الاطلاق والغرض من ورائها، وهو عقل يتجاوز (افتراضا) مجرّد القدرة على التصنيع، إلى طاقة حساب الزمن وتفعيل القدرات على أساس الهدف والواقع، في حين عمد الصهاينة إلى صبّ القنابل وفق منطق: «ما لا يحققه التدمير، يمكن تحقيقه بمزيد من التدميرة»…

OIP (1)يمكن الحديث من منظور علمي بحت، ودون أدنى مبالغة أنّ «المقاومة» (ضمن أبعادها الفكريّة والفلسفيّة) صاغت «الحداثة» العربيّة المعاصرة، أيّ تلك «الحلقة المفقودة» والتي لا يزال الواقع العربي وحتّى الإسلامي يبحث عنها منذ أن وطأت ساق أول جندي في حملة نابليون شاطئ دمياط، حين أيقن المسلمون بفعل الهزيمة النكراء التي تكبدوها أنّ مقولة «خير أمّة أخرجت للناس» لا تنطبق على حالهم، وقد اقتحم الفرنجة مساجدهم وداسوا مقدساتهم وهتكوا أعراضهم، وأذلّوا رجالهم، قبل أن تكتسح جيوش الغرب بلدانهم، وتنهب خيراتهم.

أبعد من ذلك، شاهد المسلمون كيف استطاع الغرب الأخذ بالأسباب وقد أعدّ من الوسائل الماديّة ومن مناهج التفكير، ما جعله «أقوى أمّة أمام الناس»…

«الحلقة المفقودة» هذه التي سئل عنها محمّد عبدو وجمال الدين الأفغاني والكواكبي وغيرهم كثير، إلى يوم الناس هذا، أوجدتها «المقاومة» التي استطاعت بالفعل قبل القول، وبالممارسة قبل التنظير، أنّ تسفه ما صار «من أصول الإيمان» بأنّ أيّ وقوف في وجه الغرب لا يعدو أن يكون سوى «إلقاء بالذات إلى التهلكة» مع ما يلزم من مسوّغات فقهيّة، أصّلت الخنوع وجعلته صلب الإيمان…

لم يحمل الفكر المقاوم «عقدة نقص» أمام حضارة الغرب القائمة على ثنائيّة «المجتمع الاستهلاكي» وكذلك «قدرة تدمير الآخر»، مهما كان، وفي الآن ذاته لم يهرب، كما فعلت عديد التنظيمات (المسمّاة) «أصوليّة» نحو «التاريخ» وتخفّت بين طياته في مسعى لاستدعاء «فترة البعثة المحمدية» عبر منطق «نسخ/لصق» دون الأخذ بالأسباب، وخاصّة دون قراءة الواقع بعين تجمع «الإيمان» (في بعده الديني) بما هي «أسباب القوّة» (في بعدها المادّي)…

قوّة هذه الحداثة أنّها أقنعت بفعلها وخاصّة النتائج الماثلة أمام الجميع. أقنعت الصهاينة، أنّ صورة «الصبّاريم» المثالي في خيالهم، جسّدها المقاتل المرابط على حدود غزّة، والمجهّز بأسلحة تقلّ حداثة عمّا تسلّح به الصهاينة، واستطاع دون غطاء جوّي أن يجعل قيادة الأركان تنسى وإلى أجل بعيد جدّا، مجرّد التفكير المجرّد في اقتحام غزّة عن طريق البرّ…

استطاع «داوود» (الفلسطيني) بصواريخ معدودات أن يهزم «جالوت» (الصهيوني) رغم ما في حوزته من مئات الطائرات الأفضل في العالم، وقنابل قادرة على حرق الأخضر واليابس، وخاصّة قدرة تدميريّة تأتي أقرب إلى الخيال.

حداثة المقاومة، جسّدت الصورة المثاليّة لمقاتل يرفض الاستسلام ويفضل الاستشهاد دون أدنى تردّد، أمام صهاينة رغم تشبعّهم (المفترض) بأسطورة «ماسادا»، لا يتوانون عن الهروب الجماعي عند أول صفّارة عن إطلاق صاروخ من غزّة… أسطورة تلحّ على وجوب المقاومة وعدم الفرار أو حتّى التقهقر أمام «الأعداء» مهما كان الخطر وخاصّة مهما كان الثمن.

صورة «الشهيد» عن وعي وعن دراية وسابق إصرار وإرادة، والمقاومة حتّى الرمق الأخير، لم تر النور بفعل «أسطورة ماسادا»، بل (وهنا صلب المسألة) جسّدها الشيخ الشهيد عدنان خضر (وغير كثير) عندما أقدم على اضراب جوع وهو يدري يقينا أن حظوظ خروجه حيّا من هذه التجربة، شبه معدومة، وبالتالي كان الوعي بالشهادة أقوى ألف مرّة من الجوع والعطش وحبّ الحياة الذي أصاب الوعي الصهيوني…

هي معركة مفاهيم بالأساس وما يزعج الصهاينة ومن ورائهم كامل المنظومة الغربيّة الداعمة لهم دون حساب، ليس الواقع الملموس الذي أملاه فكر المقاومة أمام عمق شعبي عربي ومسلم متعطش إلى نجاحات تطرد أو تلطّف من تلك المرارة الماكثة أسفل حلق أجيال عديدة، بل أخطر من ذلك، المصيبة تكمن في عدم القدرة أو هو العجز الكامل عن تقديم قراءة تمكّن من فهم يفكّ معادلة «التفوّق الإيماني» لمن يحملون فكر المقاومة، وأكثر من ذلك يقدّم خارطة طريق تربط «الحلم التوراتي» بالواقع القائم.

بدأ يترسّخ داخل الجسم الصهيوني يقين أنّ وضع الانحلال ذاهب إلى التوسّع وأنّ القدرة على الوقوف في وجه هذا «الإنسان» (الجديد) الذي صنعته المقاومة في تراجع شديد، وأنّ قوّة السلاح، سواء المصنّع داخل الكيان أو المستورد من مصانع الغرب، رغم القدرة التدميريّة الهائلة، لم يقدّم وأخطر من ذلك لن يقدّم حلاّ شافيا وافيا…

مصيبة الكيان الصهيوني أنّ «الصبّاريم» الذي جاء أصلا ليفكر بمنطق التوسّع من «الداخل إلى الخارج» أي التوسّع دون هوادة، انقلب أو هو عاد إلى منطق «غيتو» أي من «الخارج إلى الداخل»…

عندما أقدم أشهر «الصبّاريم» بل من فكّر الصهاينة جديّا في تنصيبه ملكا على إسرائيل، أيّ أرييل شارون على اخلاء «المغتصبات» في غزّة، تساءل ابن ميناحيم بيغن وقال : «اليوم تنازلنا عن غزّة، ما الذي يمنع التنازل غدا عن يافا؟»…

كذلك تتأسّس محاولة بناء الجدران الواقية، سواء ما يفصل عن الضفّة الغربيّة، أو عن لبنان، وغير ذلك، على عقليّة «غيتو» أو استحضار قلعة «ماسادا»، حين تمّ التخلّص من فكرة التوسّع إلى وجوب الدفاع عمّا تمّ تحصيله.

في مقابل «حداثة المقاومة» القادرة على «المرور بين قطرات المطر دون بلل»، وتقديم أداء أكثر من متميّز، يشهد الصهاينة أنفسهم أنّهم تراجعوا وعادوا إلى فكر الخرافة والتواكل وحتى التعويل على «الغيب» دون القدرة على «الأخذ بالأسباب»…

الصراع الداخلي، وإن كان ظاهره «خلاف حول دور المحكمة العليا» إلاّ أنّه دليل فشل أو هو إفلاس زواج مصلحة، ربط «المشروع التلمودي» بما هو «المشروع الاستعماري الغربي» القائم منذ عهد بسمارك على «منطق العرق»…

«الأصوليون» من المستوطنين في الكيان الصهيوني يرون ضرورة خضوع «المحكمة الدستوريّة» الواقعة بين يدي اليهود أشكناز منذ تأسيس الكيان، إلى «الرؤية التوراتيّة»، أي مغادرة سفينة الانتقال من «الديمقراطيّة الغربيّة» إلى «شريعة التلمود».

هذا «الهروب» أو هو السعي للتقوقع داخل جحر ينفي «الديمقراطيّة» (في شكلها الغربي) مردّه عجز المنظومة الحاكمة والماسكة لدواليب الدولة منذ التأسيس، عن تأمين «الحلم التوراتي» سواء التوسّع دون حساب، وأساسًا وأكثر من ذلك دعس «كنعانيي» العصر، الذين حوّلوا الحلم التوراتي إلى كابوس قاتل…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي