انقلاب في «دولة الاستقلال»: طلاق مع الإعلام بعد القطيعة مع النفوذ…

29 نوفمبر 2018

بعد تحوّل الباجي وحزب حافظ عمليّا ووظفيّا إلى «حزب معارض»، يمكن الجزم أن التوازنات الكبرى التي أقرتها دولة الاستقلال الداخلي ذات جوان 1955 قد تحطمت أو هي صارت لاغية caduque كما قال عرفات ذات مرّة عن «ميثاق منظمة التحرير الفلسطينيّة»…

لوعة الباجي وغضبه بل هو شعوره بالغدر والخديعة مردّه إحساس «حاكم قرطاج» أن رجوعه للسلطة في القصبة أولا، ومن بعد في قرطاج، وما بينهما من تأسيس «نداء تونس»، لا يعدو أن يكون إغلاقا بجميع مفاتيح العالم لقوس (ما يسمى من وجهة نظره) «ثورة» وإن كان ضرورة تغيير «الثوب الخارجي» فقط وحصرا كما تفعل الثعابين والأفاعي بين فترة وأخرى، دون أن تنجح العمليّة. لم يفهم الباجي ولم يع بأن زمن «الحاكم بأمره» ولّى وانقضى وأن من «فوائد» 14 جانفي، أنّه دمّر الهرم (الأوحد/الأكبر) دون مسّ بالبرمجيات التي حاولت مساعدة الهُريمات (تصغير هرم) على تجميع في شكل جديد، احتلّ الباجي فيه ما كان من مكانة «صانع التغيير» وإن كان في ثوب «جابر العثرات» أو هو «حامي الحمى» من «طوفان الأسلمة» العدوّ الأساسي/الأوحد لهذه «الدولة» التي فقدت سلطتها دون أن تفقد سطوتها وتتنازل عن سيطرتها..

 

جاءت الطعنة التي أصابت (هذا) «الذئب» (العجوز/الداهية) مقتلا،ـ ممّن جلبه في صورة «الغرّ» [الغشّير باللهجة التونسيّة]، الذي أراد أن يجعل منه «دمية» أو هو «جهاز التحكمّ عن بعد» أشدّ طاعة من سابقه الحبيب الصيد الذي لم يرفض فكرة الخنوع ولم يناقش مبدأ الخنوع، فقط وحصرا أراد احترام بعض كرامته التي امتهنها مستشار الرئيس (سي) نور الدين بن نتيشة. إنّها صورة التناقض في أفضل تجلياتها، الباجي الداهية، أشبه بلاعب الشطرنج القادر على استباق ضربات المنافسين قبل أن تختمر الفكرة في أذهانهم، ينهزم شرّ هزيمة أمام من حمل معه عند قدومه

بعد الخلافات التي بدأت بُعيد 14 جانفي داخل صفوف «الأزلام»، هي المرّة الأولى التي يبلغ فيها الصراع هذا الشكل العلني والمفتوح بين أطراف الحكم، بل وصل الأمر حدّ الحديث بل رفع قضيّة أمام القضاء العسكري بتهمة «الإعداد لإنقلاب»، ممّا يعني أنّ الصراع تحوّل من «حدود السلطة» إلى «أصول الملك»، وثانيا (والأخطر) انعدام الثقة حدّ الخوف من «الطعنة القاتلة» ومن ثمّة شرعيّة التفكير في توجيهها استباقا (من باب الحيطة والحذر)…

BCS2الخطر ليس في «الانقلاب» (الفكرة ـ التنفيذ ـ المخرجات)، بل في الفترة التي تستغرقها هذه اللعبة العبثيّة/السريالية: انقلب بورقيبة على الأمين باي في يسر وسهولة وسط ترحاب واسع، وبذات اليسر وذات السهولة وذات الترحاب الواسع انقلب بن علي على بورقيبة. الصورة ذاتها تمّ «صناعتها» عند «تهريب بن علي»، في حين تطول عمليّة مخاض السبسي/الشاهد، ممّا يخلق خوفا ويخلّف خشية داخل المشهد بكامله، الذي اعتاد الحسم السريع، وكذلك الكثير من الغموض حول الأثار الجانبيّة لهذه «الحرب الأهليّة».

إنّها صورة مبتكرة/طارئة: «ذات الفكرة» تحوّلت من «ومضة» قصيرة جدّا إلى مسلسل مكسيكي لا نعلم عدد حلقاته. لذلك مزعج جدّا هذا «الغموض» وأشدّ منه أنّنا أمام طبقة سياسيّة اعتادت «الطبخ السريع» لتكون أمام «قدر» يغلي على نار هادئة جدّا، بل هي جمرات قليلة وكمّ كبير من الرماد الساخن.

إنّها صورة مزعجة/مربكة: في عزّ «الثورة» لم يفقد «النظام القديم» سيطرته على الماكينة الاعلامية بل شكلت سلاحه الاستراتيجي الذي من خلاله ربح انتخابات 2014، وقبلها ازاح الترويكا من الحكم، ليكون اعلان «النداء» الطلاق مع الإعلام بمثابة قطع للحبل السري مع بقية ما تبقى من أادوات الحكم…

صرنا أمام كائن خرافي: دولة برأسين والأدهى من النزال هو الصراع القاتل بينهما. غدر «الابن الضال» مقابل خديعة «الولد الساذج»، لنكون أمام مشهد فوقي/أفقي أشبه بصراح حسين بن علي التركي مع ابن أخيه من أجل حكم الإيالة، دون أدنى فوارق على مستوى الفكر الحاكم: الشاهد نسخة من الباجي، فقط تغير «المحرك» دون تبديل في العربة.

من ذلك يأتي اعتكاف نداء تونس دون الإعلام (أهمّ الوسائل المؤثرة) أشبه بغضب كبيرة جواري السلطان الهرِمة، التي ساءها نفور الجميع منها وهي لم تعِ بعد أنّ زمانها قد ولّى وانقضى دون رجعة، أوّلا، وثانيا لا أحد سيدركها معتذرًا أو حتّى مبديا أدنى درجات الندم أو التراجع. نفهم هذا المشهد عندما نحيل المعادلة بكاملها على علم النفس السريري…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي