بوتفليقة والجيش: من رفض صورة «ثلاثة أرباع رئيس» إلى خيال باهت…

26 مارس 2019

عندما رفض عبد العزيز بوتفليقة أن يكون «ثلاثة أرباع رئيس»، كان يعني امتناعه التحوّل إلى مجرّد «دمية» بين أيدي المؤسّسة العسكريّة، وعمل منذ اليوم الأوّل لجلوسه على سدّة الحكم في قصر المراديّة، على تقزيم هذه المؤسّسة واخراجها من مجال السيطرة إلى درك المفعول به، ليس سعيا وراء «دولة مدنيّة» (عكس «الدولة العسكريّة»)، بل ـ وهنا الخطورة ـ رغبة في «ترئيس» (من الرئاسة) صلاحيات الجيش وجعلها ضمن «مجالات نفوذ فخامته»، ومنذ مرضه ضمن دائرة «جماعته» التي صارت تتكلّم بإسمه وتحرّر الرسائل بدلا عنه.

صراع بوتفليقة مع المؤسّسة العسكريّة، لم يكن بين «خير مطلق» مقابل «شرّ مطبق»، بل كان مجرّد سعي لافتكاك صلاحيات وتجميع أوسع قطاع منها بين يدي رجل واحد، أو من وراءه من «منظومة»…

الصراع بين «المدنيين» مقابل «العسكريين» ليس طارئا ضمن مسيرة الجزائر التاريخيّة، بل هو الذي حدّد مسار «الفعل الثوري»، حين سيطر «الخارج على الداخل» وكذلك «العسكري (هيئة الأركان بالتحديد) على المدني». لكن من الاجحاف الحديث أو اعتماد لفظ «الجيش» ضمن المعنى ذاته أو نفس الدلالات، منذ الاستقلال (على الأقل) إلى يوم الناس هذا، لأسباب عديدة: أوّلها، التطوّرات السياسيّة التي عرفتها البلاد، بين صورة الجيش الذي كان في ستينات القرن الماضي حين كان يحتل (ضمن جميع المعاني) ثُلث المقاعد ضمن اللجنة المركزيّة لحزب جبهة التحرير الوطني، إلى خطاب نائب وزير الدفاع قائد الأركان، في المنطقة العسكريّة الخامسة (ورقلة) يوم 26 مارس 2019، من ضرورة تطبيق المادة 102 من الدستور، التي تعني شعور منصب الرئاسة بفعل المرض أي شكل من أشكال العجز.

هي «لعنة التاريخ» أو هو يعيد ذاته في أيّ صورة كانت: سواء «ملهاة» أو «مأساة»، رئيس (جمهوريّة) جاء لممارسة «انتقام» من مؤسّسة لم تعامله منذ فترة  «حرب التحرير» بما يرى أنّه أهل له من «احترام» حين تمّ استبعاده من دوائر «هيئة الأركان» إلى مهمّة «افتراضيّة» (بالمفهوم الحالي)، أيّ دون أهميّة استراتيجيّة أو تأثير مباشر على مجرى الثورة (تكليفه بالاشراف على «جبهة لا وجود لها في مالي»، وصولا إلى «اقصائه» لفائدة «العسكري» مرشّح «المؤسّسة العسكريّة» الشاذلي بن جديد، إثر وفاة الرئيس هواري بومدين، على أساس قاعدة تمّ ابتداعها (حينها)، أيّ «العسكري الأرفع سنّا في الرتبة الأعلى»…

GSBمن الصعب تخيّل سقوط بوتفليقة إلى هذا الدرك، حين جاءت صفّارة نهاية «اللعبة السياسيّة» من قبل «العسكري صاحب الرتبة الأعلى»، وهو من جاء لتركيع الجيش والانتقام من جبهة التحرير التي خونته واعتبرته لصّا وطردته من صفوفها. رجل بمثل ذكاء سي «عبد القادر المالي» (الاسم الحركي لبوتفليقة أثناء الحرب التحريريّة» ما كان ليسقط في مثل هذا «الجبّ» لولا مرضه واعتماده «حصان طراودة» من قبل «منظومة» تحيط به…

لسائل أن يسأل ويطرح ـ في تجاوز لمتن خطاب القايد صال في ورقلة ـ عن السبب الذي جعل قائد الأركان، يجهر بخطابه وهو يملك من أدوات الإيصال ما يجعل «الرسالة» تصل إلى المعنيين بها سرّا (أو بالأحرى بعيدًا عن الأضواء)، بل تجعلهم ينفذونها دون نقاش ودون ابطاء؟ ليس من جواب سواء رغبة مؤسّسة الجيش (الواعي أو الباطن) في اقصاء من جاء لتدجينها، بل أعلن وتباهى بكلّ خطوة نفذّها، ومارس من خلالها أعلى درجات التشفّي.

تتجاوز البعد الثنائي في علاقة بوتفليقة بالمؤسّسة العسكريّة ضمن مسار تاريخي بين الطرفين، للجزم بأنّ عمق شعبي ومن ورائه قطاعات واسعة من الطبقة السياسيّة، لا يمكنها سوى مباركة أو الرضا، بهذه «النصيحة العسكريّة»، لكن بالتأكيد لن تقدم جهة فاعلة ونافذة على «معارضة» النصيحة أو رفضها علنًا ومن ثمّة الذهاب إلى مواجهة مع «أنصار المادّة 102».

هناك ضبابيّة تعمّ المشهدين السياسي والشعبي في الجزائر: دستور عاجز بمفرده عن فرض الحلول، حين تعيش البلاد «خارج الدستور» وقد أقدم بوتفليقة على «تأجيل الانتخابات» إلى أجل «غير مسمّى»، دون «سند دستوري»، مقابل «سياسة الأمر الواقع» القائمة على التوافق بين «الشارع»، (على الأقل) من خلال شعاراته من جهة، مقابل «مؤسّسة الجيش» التي استدارت في بطء أو بالاحرى، استدار قائد أركانها، من الحديث عن «المشاغبين» من الشعب، الذي خرج للتظاهر، إلى قول جميل في هذا «الشعب»، لم يقله مالك في الخمرة.

من الأكيد أنّ «الشعب» حقّق الكثير من المكاسب، أوّلها كسر قانون منع التظاهر لسنة 2001، والتحوّل إلى «أصل الشرعيات» جميعها، بل أعلاها مقامًا، إلى درجة أنّ الجميع، نخبة سياسيّة وقيادة عسكريّة، تعدّل خطابها وتصنع قرارها على قاعدة هذه «الهبّة» الجماهريّة التي أبهرت العالم، لذلك لم يعد من الممكن الحديث عن «المعادلة» السياسيّة وأساسًا العلاقة بين «المؤسّسة المدنيّة» (الرئاسة وروافدها من رجال أعمال وأحزاب «الشيتة» ومنظمات المجتمع المدني) من جهة، مقابل «المؤسّسة العسكريّة»، حين تميّزت «رسائل بوتفليقة» (أو من يكتبون عوضًا عنه) وكذلك «خطب قايد صالح» بشيئين: أوّلا، الرسائل كما الخطب جاءت ردّا على تطوّرات «الحراك الشعبي» المتصاعدة، وثانيا، (وهذا الأهمّ) هذا وذاك ليس فقط غازل «الهبّة الشعبيّة»، بل عمل على ارضائها أو هو (على الأقل) ادعى خدمتها والتماهي معها.

خلاصة: أنجز الشعب «معجزة» يمكن الجزم أنّها بتاريخيّة «ثورة نوفمبر» المجيدة، حين تمّ القطع، على الأقلّ على مستوى المفاهيم، بين عهدين: عهد الشعب المفعول به أو فيه، وعهد «الشعب أساس الشرعيّة»، مع التأكيد على وجوب تفعيل «الطاقة الكامنة» في هذا الشعب العظيم إلى «قوّة فعل» سياسي.

تلك رهانات جيل كامل، أعمق من منطق اللحظة ونشوة عابرة…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي