سعيدة قرّاش: بين إبادة «الأقليّات» وتدمير «الدولة الديمقراطيّة»….

22 أغسطس 2017

عندما تخيّر مستشارة رئيس الجمهوريّة، السيّدة سعيدة قرّاش عموم الناس ومن يصل إليهم صوتها في هذه البلاد بين «الانضواء» تحت رؤية الباجي قائد السبسي عندما اقترح «المساواة في الإرث» من ناحية، وبين (وجوب) «مغادرة البلاد والالتحاق بما يسمّى «داعش»، فهي تثبت بالدليل العلمي القاطع أنّها لم تغادر البتّة أو هي دائمًا أسيرة «حجرة [صخرة] سقراط»، مركز وقلب الصراعات الأيديولوجيّة في الجامعة القائمة في أعالي العاصمة تونس، حين كانت أجمل الخطب، ما ذهب نحو «الحسم» وكذلك «الإقصاء»، تحت شعار «عليها نحيا وعليها نموت» بالنسبة للطيف الإسلامي، في مقابل شعار «لن يمرّوا…» عند الطيف المقابل.

مصيبة، بل هي كارثة بأتمّ معنى الكلمة أن يبقى دماغ السيّدة المستشارة في حال جمود عند هذه «الصخرة»، ومصيبة أكبر أن يتمّ تصريف شؤون الدولة والبلاد والعباد بهذه العقليّة، والطامّة الكبرى التي ليس بعدها من مصائب، أن يأتي هذا «القول/الفعل» عاديّا، بل طبيعيّا، في دولة تدّعي وتعلن وتفاخر أنّها في «مسار انتقال ديمقراطي»، بل هي أفضل «حالات الربيع العربي» إن لم تكن «الحالة اليتيمة» وسط الدمار الذي تعيشه الدول التي مسّتها «لعنة البوعزيزي»…

 

عند تحليل خطاب سعيدة قرّاش الإقصائي، نجده أسوة بكلّ خطاب «فاشي» يعتمد بل يتأسّس على مبدأ «الثنائيات القاتلة»، أيّ استحواذ «القائل/الفاعل» على «شرعيّة الخطاب» ومن ثمّة «شرعيّة ممارسة الفرز» وفق الضوابط التي يريد أو هي التي يفرضها. كان هذا المنطق «جميلا» بل «لذيذا» بين ثنايا الجامعات التونسيّة، حين كان الجميع، أيّ شباب هذه الجامعات من طلاّب وطالبات، يمارس أقصى درجات «الجنون» في القول، وما تيسّر من صدام مع بوليس صاحب عصا غليظة لا ترحم. كان هذا الخطاب «رائعًا» حين لم يكن مطلوبًا منه «أن يغيّر الدنيا» وإن كان (على مستوى الشعارات) يدّعي أحقيّة ذلك، لكن أن يتحوّل إلى «المحرّك/اللوغس» الذي يحرّك دواليب الممارسة الإعلاميّة لمؤسّسة الرئاسة فتلك هي المصيبة.

 

SGأنّ تخيّر سعيد قرّاش في معنى الحسم والتحدّي وفي لهجة المزايدة والمكابرة جميع المتلقين/السامعين بين خيارين لا ثالث لهما، فهي تكون قد حسمت في «هويّة/هويّات» الشعب التونسي بأكمله، ليس وفق الحدّ الأدنى من القراءة الموضوعيّة أو التنويعات المتوافق عليها علميا كان أو سياسيّا، بل (وهنا المصيبة والطامّة الكبرى)، وفق متخيَّل [بفتح الياء وتشديدها] يمارس ومارس الإسقاط منذ «حجرة سقراط» إلى يوم الناس هذا…

القول أو الجسم من قبل سعيدة قرّاش بالخيار بين «مشروع الباجي» مقابل «الرحيل وما يسمّى داعش»، يعني أنّ المتلقّي، لا يمكنه حمل «هويّة» أخرى، وكذلك لا يمكنه الخيار/الاختيار سوى بين هذين الهويتين، في حين يعلم الساذج قبل الذكي، والغبيّ قبل الفطن، والجاهل قبل المتعلّم، أنّ هذه الثنائيّة قاصرة بل عديمة النفع والفائدة عند قراءة الطيف المكّون للشعب في تونس، سواء على مستوى الهويّات الثقافيّة/الحضاريّة أو حتّى الانتماءات السياسيّة/الأيديولوجيّة…

 

الطائفة اليهوديّة، لأهميتها السياسيّة القائمة ومدى «حرقة» كلّ ما تعلّق «بالشريعة» لدى هذه الجماعة، لن تجد لها مكانًا، وفق التعريف/التقسيم الذي أتت به وأسقطته السيّدة المستشارة، حين لن يقبل يهود تونس [بالجزم والتأكيد] بالانضواء تحت لواء «المساواة في الإرث» ولن يقبلوا كذلك «مغادرة البلاد» كما لن يقبلوا «الالتحاق بما يسمّى داعش». إلاّ إذا كانت السيّدة المستشارة تنوي [لا قدّر الله] تصفية اليهود (أسوة بالنازيّة) أو ترحيلهم بالقوّة…

 

من باب الأمانة التاريخيّة والصدق أمام الأحداث، كلام السيّدة المستشارة، موجّه إلى «المسلمين» بالمعنى الاجتماعي/التاريخي للكلمة، ومن ثمّة هي تستبطن «خروج/إخراج» غير المسلمين من معادلة الإقصاء، لأنّ من سابع المستحيلات بل فوق الخيال، أن يقبل/يفكّر الباجي قائد السبسي لحظة ضمّ اليهود تحت جناح مبادرته، ومن سابع المستحيلات بل فوق الخيال [مرّة أخرى] أن يقبل يهود تونس الانضواء تحت مبادرة «سقف الباجي»….

أمام هذه الحقيقة البيّنة، ينتقل مركز الاختلال من التقسيمات المعتمدة ليمسّ «جوهر الدولة» سواء على مستوى المشروع والطرح، أو التطبيق والممارسة. دولة في ظاهرها وحسب منطوق طبقة سياسيّة برمّتها تفاخر بما هي «ديمقراطيّة» الدولة، وما هو «الدستور» الفريد من نوعه، بل فلتة على المستوى العربي/الإسلامي، في حين أنّ لا أحد من هؤلاء السياسيين، قادر على الحسم (بمعنى تبني المسؤوليّة) بخصوص مسائل تطبيقيّة مثل موقع يهود تونس من «المساواة في الإرث»…

 

إحقاقًا للحق ومن باب الأمانة التاريخيّة، حال الانفصام السيكولوجي والقطيعة المعرفيّة، وكذلك الخلل الذهني، يتجاوز السيّدة المستشارة ليمسّ طبقة سياسيّة، بل هو فكر سياسي شامل، بالمعاني الثقافيّة والحضاريّة. كلام سعيدة قرّاش لا يختلف ولم يغادر «منطق» بايات تونس في تعاملهم مع «الرعيّة» وما جاء من «تدرّج» في تمكين «يهود البلاد» من حقوقهم. فقط، بايات تونس استثنوا اليهود بالعطايا والامتيازات في حين استثنتهم السيّدة المستشارة بالتجاهل والنسيان…

 

حين توسيع دائرة القراءة والغوص والتحليل واعتماد أدوات علميّة بل أكاديميّة لقراءة الواقع التونسي القائم أمامنا، على مستوى «بنية الدولة» [أي دولة دستور ما بعد 14 جانفي] نجد عند الاطلاع على الحبر الذي خطّ الأوراق، أنّنا أمام «كلام إنشائي» رائع وبديع بل شديد الروعة وبالغ الجمال، على نقيض الواقع، سواء عبر خطاب الباجي يوم 13 أوت أو «ثنائيّة قرّاش»، عند حصر المسألة في موضوع «المساواة في الإرث»، من تمييز بين «طبقات» الشعب التونسي وأساسًا (وهنا المصيبة) استبطان هذا «التمييز» واعتباره «أمرًا عاديّا»، بل ذلك «المسكوت عنه»، حين يعجز أيّ مسؤول مهما ارتفع مقامه، على مواجهة هذا الانفصام بشجاعة وصراحة وحريّة ضمير، لأنه (بكلّ بساطة)، سيجد نفسه «مخيّرًا» بين «الفضيحة الأخلاقيّة» [أي دونيّة اليهود على خلاف النصّ الدستوري] أو [على العكس] أنّهم «شعب مختار» أيّ فوق «الدستور» وخارج «جميع الحسابات» السياسيّة…

 

ختامًا:

ما دام هناك «مسكوت عنه» في الحياة السياسة التونسيّة، وما دام «الانفصام» قائم بين «جماليّة الدستور» مقابل «قبح الواقع»، وما دامت «الطبقة السياسيّة» (من يمين ويسار وكذلك من إسلاميين وعلمانيين) عاجزة/رافضة أن تنظر إلى عيوبها في شجاعة وصراحة، بل هي مصمّمة على المكابرة والهروب إلى الأمام، ستكون «الدولة الديمقراطيّة» (وتوابعها وملحقاتها) أشبه بالسلع المهرّبة من الصين الصديقة: سلعة ذات استعمال واحد، دون ضمان جودة السلعة أو خلوّها من المواد المسرطنة…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي