الرأي العام يعوم في ديمقراطية الغموض والفوضى…

22 فبراير 2016

من الأكيد وما لا يقبل الجدل أنّنا نعيش (بكلّ المقاييس) «حريّة اعلام» أفضل ممّا كان الحال قبل عشيّة 14 جانفي، ومن الأكيد وما لا يقبل الجدل، أنّ السؤال المطروح لا يخصّ الأفضليّة بين الحالتين، بل ـ وهنا الأهميّة ـ كيفيّة الوصول إلى «حال أفضل» أوّلا وثانيا، تطويع «حريّة الاعلام» وما معها من «ديمقراطيّة» لتكون الحياة «أفضل» على كلّ المستويات…

يحسّ قطاع واسع جدّا من الشعب أنّ «الحريّة» جاوزت مداها وأنّها بلغت أو هي وصلت حدّا انقلبت معه إلى «الضدّ»، ليكون (هنا) من يذكّر بما هي «محاسن العهد السابق» من «هدوء» وحتّى «النعيم» إن لم يقل «الجنّة»..

 

عندما ننطلق من مبدأين لا يقبلان الجدل أو النقاش:

أوّلا: جاءت «الثورة» لأنّ نظام بن علي راكم من الظلم والطغيان والجبروت والتعدّي على الحرمات، ما صار «سياسة دولة» بل «الطريقة الأفضل» بل «الوحيدة» ليس فقط لتأمين الحكم، وإنّما «السياسة الوحيدة» تجاه العباد والبلاد.

ثانيا: أي دراسة ـ مهما كانت جديتها وعمقها وشموليتها ـ للشعارات المرفوعة بين 17 ديسمبر و14 جانفي تثبت بما لا يدع للشكّ، أنّ لا جهة ولا جماعة ولا فئة مهنيّة أو غيرها، خرجت للشارع من أجل مطالب شخصيّة أو فئويّة أو جهويّة أو ذاتيّة، بل كانت الشعارات جامعة وتخصّ مطالب الشعب بأكمله…

la-tunisie-commence-a-subir-les-effets-du-rechauffement-climatiqueعلى عكس تلك الفترة، غرقت البلاد تدريجيّا (على مستوى الاعلام أو بفضله) في المطالب الفئويّة والقطاعيّة والجهويّة، لتتحوّل البلاد إلى «سوق» تحاول من خلالها كلّ جهة أن «تحصّل ما تريد»…

 

الأزمة في أنّ البلاد تعيش قطيعة بين شيئين كان المأمول أن يشكلا قاعدة للانطلاق بالبلاد نحو الأفضل:

أوّلا: حريّة تعبير لا مثيل لها مقارنة مع ما قبل 14 جانفي وقدرة كلّ جهة أن تقول ما تريد، وفق المنبر الذي تملكه أو استطاعت الوصول إليه،

ثانيا: حصول انتخابات يمكن الجزم أنّ علاقة ولا مقارنة بينها وبين انتخابات ما قبل 14 جانفي، ومن ثمّة (ومهما تكن الانتقادات) لا يمكن البتّة (سواء على مستوى الشرعيّة أو الطبيعة) مقارنة «الوضع القائم» بالوضع الذي كان قبل «سقوط (رأس) النظام»…

 

هناك من يسعى لخلط الأوراق، والذهاب بالبلاد عن طريق الشكّ إلى طريق عكسي أو التقهقر إلى الوراء، مع التأكيد أنّ قطاع الاعلام يمارس على هذا المستوى الدور الأوّل في:

أوّلا: التقليل من «جرائم العهد السابق»، سواء من خلال «النفخ في منجزات» (هذا العهد) أو «التهوين» من «الأخطاء، من خلال «تبييض» رجالات هذا العهد، وتقديمهم ليس فقط في صورة الأفضل والأكثر قدرة، بل في مقام «المنقذ» للبلاد من «ضلال» (الثورة)…

ثانيا: الذهاب بقراءة الوضع الحالي إلى سوداويّة مقيتة، على كلّ المستويات، بل القول أو هو الجزم أنّ «الثورة» (تكاد تكون) خطأ في مسار البلاد…

 

دون السقوط في أبعاد عاطفيّة، يمكن الجزم أنّ هذه «الماكينة» التي تقف وراء هذا «البرنامج» ترتكب أخطاء فادحة في حقّ البلاد وفي حقّها:

أوّلا: هي عاجزة تمام العجز عن فهم أو استيعاب «مجرى التاريخ» وفهم (على مستوى الواقع والممارسة وليس الخطاب التسويقي) أنّ يستحيل وضع «ما جدّ» بين قوسين وتجاوزه من خلال العود إلى «العهد القديم»

ثانيا: يستحيل (بل هو سابع المستحيلات) أن تحصّل هذه «الماكينة» ما تبغي من خلال من «تستعمل» من أدوات، حين تحتلّ (وهنا الخطر الأكبر) المساحات الاعلاميّة من خلال «التشنّج» وكذلك «التوتير» وليس الهدوء والطمأنينة.

حال العجز عن الفهم والعجز عن التأسيس، خلّفا حال من التوتّر العام على المنتديات الاجتماعيّة خاصّة، ومن ثمّة يأتي كمّ «العنف» شديدا جدا، داخل النفوس، وبالتالي، سيكون من يحكم الآن ومستقبلا…

 

انحصر الهمّ السياسي والاجتماعي وحتّى الفردي والعائلي في «تحقيق الفوز»، وليس «بماذا تفوز» أو هو انحصر من «تحقيق الفوز» إلى «تأمين هزيمة» (الطرف أو الأطراف المقابلة)، وبالتالي لم يعد من الضرورة (وفق أيّ منطق عقلاني) الحديث أو ترتيب البلاد حسب «الأفضليّة» بل (وهنا الخطورة والطامّة الكبرى) يمكننا الحديث عن «الأقلّ سوءا» وكذلك «الأقلّ قدرة على الاضرار»…

 

هناك احساس عام بالمرارة واحساس بأنّ هذه المرارة تتزايد واحساس بالعجز أمام المرارة وتزايدها. صورة يصنعها الإعلام ويؤكدها التعاطي السياسي مع الأحداث الجادّة، خاصّة وأنّ هذه الأحداث تأتي خطيرة على مستويين:

أوّلا: أنّ المسائل «الأشدّ» غموضًا ترتبط وتتعلّق بالنواحي «الأمنيّة» بدءا بالعمليات الارهابيّة وصولا إلى الهجمات على القوّات المسلّحة (بمختلف أذرعها) وصولا إلى «الحاوية» البلجيكيّة.

ثانيا: يأتي جزء كبير من التوتّر (الأمني) بل متزايد مرتبط بما هو «خارج الحدود»، سواء من فعل «تونسيين» (خارج الحدود) أو جهات لا يهمّها الاستقرار في تونس أو هي تسعى لتهديده.

 

ضمن هذا «الغموض» وهذه «الضبابيّة» لا يهمّ من يفعل عن «عمد» أو من هو «أطرش في الزفّة»، لأنّ العبرة بالنتائج، ليس فقط على مستوى الواقع الملموس.

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي