«الغريبة» عنوان الغربة وملجأ الغرباء…

27 مايو 2016

منذ وعد «بلفور» المشؤوم (على الأقلّ) استطاعت الحركة الصهيونية صياغة قناعة يمكن تلخيصها في نقطتين:

أوّلا: أنّ الصهيونية (الفكر والإيديولوجيا والعقيدة) تتماثل تماثلا تامّا مع اليهوديّة (الدين والهويّة والثقافة)، وبالتالي هذه تساوي تلك، وتلك عبارة عن هذه.

ثانيا: صناعة «صورة اليهودي الضحيّة» عبر التاريخ، وتأكيد الأمر بل ترسيخه بُعيد الحرب العالميّة الثانية

13265959_10209691837155645_516216289785131201_nجزء غير هين، بل هو الغالب من «النخب» (العربيّة) التي تتعامل ولها مصالح مع «الأطراف الغربيّة» تعلم وتدري بل هو اليقين (لديها)، بأنّ الموقف من «المسألة اليهوديّة» (إجمالاً) يشكّل إحدى أهمّ محدّدات «الصورة السياسيّة» ومن ثمّة «الموقف السياسي» من قبل الجهات الغربيّة. لذلك تسعى كلّ الأطراف، عند أيّ مناسبة يتمّ فيها تناول «المسألة اليهوديّة»، تسرع الطامّة والعامّة وأطراف السياسة وحواشي النخب إلى «إثبات حسن النيّة» علّ «التاريخ» (أيّ الصحافة والمخابرات) تسجلّ «صكّ البراءة» (المؤقت بالتأكيد)…

 

في توسيع لمجال الرؤية (التاريخيّة) ودائرة التحليل (السيكولوجي)، نجد، بل نقرّ من خلال المشاهدة المباشرة التي لا تحتاج إلى تعمّق شديد أو بحث مستفيض أن مسعى «تبييض الذات» يأتي أشبه بما:

أوّلا: «الهوس» (في علم النفس السريري) أو مثل الإدمان حين يصبح الأمر دون كلل أو ملل،

ثانيا: تمارسه «الذات» (المريضة) تجاه «الذات» (التي تعتبرها الأقوى)…

هي دلائل الاستعباد أو القابليّة للاستعمار التي فصّل فيها الراحل مالك بن نبي جيّدا وتحدّث عنها الكواكبي وتطرّقت إليها «هنّا آرنت» جيّدا، حين تصبح قمّة منى «الضعيف» أن يصنع «صورة» (عن ذاته) تنال رضا «القويّ»..

 

من ذلك تأتي «تخميرة» الشيخ الجليل عظيم الأدب، حَسَنُ الكلام عبد الفتّاح مورو، حين بالغ وزايد وفاض به الكلام عن حدود الواقع المقبول إلى عمق الخيال المجبول بما هي «المبالغة» (المفضوحة)…

 

المسألة لا تعني اليهوديّة والموقف من هذا الدين، سواء تعلّق الأمر بالعمق التاريخي للعلاقة أو بالواقع (منذ انتصاب العصابات الصهيونيّة في فلسطين) أو بما يجري الآن من تمرير قائم وتلاعب قادم بما هو «الحقّ الفلسطيني» (على اعتبار هذه الأرض وقف لا يجوز لأيّ كان أن يتخلّى عن شبر منه)، بل تعني المسألة «الذات» (أو الذوات) المهتزّة، التي سارعت بُعيد «الاعتداء الإرهابي» على مجلّة «شارلي هبدو» إلى ذرف الدموع أمام منزل السفير الفرنسي وإشعال الشموع، في حين أنّ حادث مماثل في مالي (مثلا) بعد مدّة قصيرة وما خلّف من ضحايا (أرفع عددا) لم يثر أدنى اهتمام، كأنّ (والله أعلم) لا تنزل الدموع إلاّ لقتلى الفرنجة!!!!

هو مرض يتجاوز التناقضات السياسيّة والاختلافات الإيديولوجية، بل يجمع العائلات السياسيّة جميعها ويجعها في «بوتقة» غليان واحدة، تزايد عن بعضها، حين تحوّلت «الغريبة» إلى «سوق عكاظ» يزايد «الشعراء» فيها هذا على ذاك، لأنّ أعظم الشعر أكذبه، تراهم يكذبون ويغالطون أنفسهم والناس، والتاريخ خاصّة، دون أدنى شعور بالذنب أو هو (في الحدّ الأدنى) الحياء (الفطري)…

 

لا تختلف معادلة «الدونيّة» هذه (بالمفهوم الخلدوني) حين تكون بين «الداخل» و«الخارج»، على ما هو «شأن داخلي»، حين انبرى زعيم حركة النهضة ومرشدها ورئيسها دفاعًا عن سليم شيبوب وتدخّل لدى «جليسه» الباجي قائد السبسي، رغبة وعملا على عدم إخراجه من «بيته»، في حين أن (سي) سليم لا تليق به «عزيز قوم ذلّ» لأنّه (أثناء عهد صهره) سرق المال ونهب مقدرات الدولة واعتداء على المحرمات وارتكب الفواحش، فما الذي يدعو شيخ جليل (يعرف ربّي بالأكيد) إلى هذا الدفاع «المستميت» عن فاسد، في حين أنّه (كما تقول الفرنجة في لغتها) لم يحرّك «صغير أصابعه» من أجل المحرومين من جرعة دواء من أبناء الحركة وغير أبناء الحركة؟؟؟

 

الجواب بسيط:

راشد الغنوشي يؤمن بل اليقين عنده أنّ «أبناء الحركة» مسجلين في «دفتر خانة» (قالها الزعيم علي العريض ولم تكن زلّة لسان) ومن ثمّة لا حاجة له ولا مصلحة ولا فائدة من «تحسين الصورة» (لديهم)، أو على الأقلّ (حين نأخذ الأمور من زاوية التفاؤل) تأتي حاجته إلى «تحسين الصورة» أمام (سي) سليم شيبوب (ومن يقف معه وراءه)، ذات أولويّة أكبر، لأنّ الشيخ/المرشد/الرئيس يرى (من زاويته) أنّ «تحسين الصورة» سيحمل أو هو سيجعل «الرأي المقابل» يحسّن الصورة التي يحملها عن «النهضة» وعن الشيخ/المرشد/الرئيس…

 

المصيبة الكبرى:

أنّ الصهيونية العالميّة والغرب بألوانه وهذا الداخل الماسك لمفاصل الدولة، أذكى وأرفع ذهنًا وأحدّ نبوغًا من أن تنطلي عليه هذه «الخزعبلات» (هي خزعبلات فعلا)، وأنّ هذه الصهيونيّة وهذا الغرب بألوانه وهذا الماسك لمفاصل الدولة، جعل من هذا «الحجّ» وهذا «السعي» (وأمثاله)  ليس فرصة لتحسين «الصورة»، لأنه من الذكاء ما يجعله يدرك كنه الأشياء، بل وهنا الخطورة، لعبة «قذرة جدّا» ندمّر هذه «النخب» (المريضة) من الداخل، وتجعلها تذوب أو هي تفنى (بالمعنى الحقيقي كما المجازي) حبّا في من تريد أن تثبت له الحبّ…

 

الخلاصة:

رجوعًا إلى التاريخ (ربّما نصل إلى العصر الحجري) اليقين قائم، بأنّنا نرى «طحينًا» (كل يفهم المعنى الذي يريد)، ونسمع جعجعة، دون أن يبلغ أيّ «طحّان» (كل يفهم المعنى الذي يريد) مراده، ومن ثمّة يمكن الجزم، أنّنا دون «ظلم لأحد»، أمام «مسرحيّة» ذلّ وهوان ومهانة وانحدار للذات إلى درك سيزداد كلّ عام…

طوبى لمن عرف قدره وجلس دونه…

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي