الدولة «العميقة» في مواجهة نهضة أعمق

7 ديسمبر 2015

تعيش تونس راهنًا حربًا لا تقلّ ضراوة عن الحروب الأخرى البيّنة والتي من أجلها وبها وعلى أرضها يتعارك الإعلاميون ويتشاتم السياسيون وكذلك من شاء وأراد على وسائل التواصل الاجتماعي. حرب أخرى صامتة، أو هي لا تبدو ولا تبرز في صورتها الأولى أو وجهها الحقيقي، بل تتقاطع أحيانًا مع «معارك أخرى» لتعود بسرعة إلى «الاختفاء» أو بالأحرى إلى «خفائها».

من الأكيد أنّ هذه «الحرب» تمثّل لدى «صنّاع القرار» (الحقيقيين) أهمّ محدّد «لمستقبل البلاد» ليس ضمن المعنى المتداول، أي من يجلس على «الكرسيّ» (فقط)، بل أساسًا وقبل كلّ شيء من يمسك بمقاليد السلطة الحقيقيّة ويتحكّم في خيرات البلد وثرواتها.

حرب أساسها السعي المتواصل والعمل دون هوادة للسيطرة على مفاصل الدولة، أو في الحدّ الأدنى القبول (مرحليّا) بأن تسيطر عليها «جهة محايدة» (أيّ «جهة غير عدوّة»).

 

هذه الحرب الخفيّة عن اعلام «النباح» والصراخ وإثارة الرعب وترسيخ القناعات، تتقاطع مع المعارك القائمة (في البلاد) وكذلك تتقاطع أو هي نتاج (وهنا الأهميّة والخطورة) الخيارات الاستراتيجيّة للقوى الاقليميّة والدوليّة، التي تهمّها هذه «الحرب» (الاستراتيجيّة) كما تهمّها «المعارك» (التكتيكيّة)، وأساسًا، تفعيل الثانية في سياق الأولى…

الحرب تهمّ الخيارات الاستراتيجية وأساسًا النمط المجتمعي أوّلا، ومن ذلك هويّة أو ماهيّة الجهة أو الجهات الماسكة لهذا الدولاب (دولاب الخيارات) وأيضًا الروافد الاقتصاديّة والأدوات الاجتماعية والأبعاد الثقافيّة (خاصّة) دون أن ننسى (في ارتباط بالعوامل السابقة) «منظومة الأخلاق» في علاقة مع «النظام التعليمي» ومدى استتباب الأمن واستقرار القضاء…

على هذا المستوى تأتي أحزاب أو جماعات الرفض والقطيعة غير ذات أهميّة «ميكانيكيّة»، وإن كان من المفيد أحيانًا وجودها، أو تفعيلها، من باب إثارة الخوف وتحفيز النعرات. «الجماعات الجهاديّة» وكلّ فرق «القطيعة الحضاريّة» كمثل «حزب التحرير»، مستبعدة من هذه «الحرب الاستراتيجيّة» أوّلا بسبب ضعف أدائها وثانيا الضعف النسبي لوجودها داخل المجتمع، بل يقدّر الخبراء أنّ الخطر قائم على مستوى الأفكار وليس التنظيمات ذاتها.

تبقى حركة النهضة ذات الوزن الشعبي الأكيد الأخطر على مستوى هذه «الحرب» حين يتراوح القرار الدولي (ولا يزال) بين استبعادها وبين تدجينها، علمًا أنّ هذا لا ينفي ذاك، حين يتمّ اعتماد الطرح الثاني من أجل بلوغ الاوّل، لذلك تأكدت قيادة النهضة (أساسًا منذ سقوط حكومة الترويكا) من أمرين أكيدين:

أوّلا: موازين القوى «الديمقراطيّة» لا تمثّل المحدّد الأوحد أو الأساسي لفرز النخبة السياسيّة الحاكمة في البلاد، علمًا وأنّ جزءا غير هيّن من دواليب هذه «الدولة» بقي أو هو يرفض الخضوع للضوابط «الديمقراطيّة» التي أفرزتها انتخابات 23 أكتوبر، إن لم يكن مقاومًا لها وعاملا على تحطيمها.

ثانيا: لم تبد دول العالم جميعها (إذا استثنينا الخطابات الدبلوماسية الرنّانة) أيّ اهتمام بما هو «الانتقال الديمقراطي» (في تونس) خارج مصالحها المباشرة، بل جعلت (الدول العظمى وذات المصلحة المباشرة) من هذه «الاستقرار» (أي استقرار المصالح) عاملا أهمّ (بكثير جدّا) من هذه «الديمقراطيّة الناشئة»، إن لم تكن (هذه الدولة أو تلك) ممّن يحنّون إلى «نظام القمع» (الراحل)…

يبدو بما لا يدع للشكّ إذًا، التباين على مستويين اثنين:

أوّلا: التوازن الديمقراطي (الصوري والظاهر) لا يعبرّ عن موازين القوى القائمة، بل الفاعلة والماسكة للقرار الحقيقي.

ثانيا: الديمقراطية ليست غاية في ذاتها سواء داخليا أو خارجيا، حين لا يمكن بل يستحيل على العمق الشعبي الاكتفاء بهذه «الديمقراطيّة» دون الرخاء والرفاهية… كذلك لا يفكّر الخارج في (لعبة) «الديمقراطيّة» (التونسيّة) سوى من باب مصالحه (الضيّقة).. دون أن ننسى (وهنا الخطورة) استحالة تأمين الرخاء «للداخل» دون تأمين مصالح هذا «الخارج»…

ثالثًا: لا مصلحة ولا قدرة ولا حاجة لأيّ جهة (داخل البلاد) للدخول في صدام مع هذه «الدولة العميقة»، فقط هي حرب «استنزاف» طويلة الأمد، وكذلك حرب «قضم» تدريجي ومتواصل للمناصب، وأساسًا حرب «سريّة»، تستوجب «التقيّة» (إن لم نقل الاختراق وكذلك «التقيّة»)

 

تمثل إذا، عملية السيطرة على «الدولة العميقة»، أو على الأقلّ اقتطاع أكبر جزء ممكن من هذه الكعكة، فائدة على المستويات التالية:

أوّلا: ضمانة أكيدة ضدّ أيّ عمليّة انقلابيّة وقدرة كبيرة على استباق ضربات النافسين

ثانيا: آلية للتحكم (في ما أمكن من مجال) وضمان أو (على الأقلّ) توفير فرصة للوجود ضمن اللاعبين الكبار داخليّا، دون أن ننسى «تثمين» موقف يتمّ التفاوض من خلاله مع الدول الاقليميّة والقوى العظمى ذات مصلحة مباشرة وتأثير (هو الأخر) مباشر، على الوضع في البلاد…

 

مرزوق - الغنوشي - السبسي

مرزوق – الغنوشي – السبسي

يمكن الجزم أنّ المعركة بين كلّ من «الدولة العميقة» وكذلك «النهضة» قائمة على قدم وساق. الأولى تتّكل على «رأسمال السلطة» ومن ثمّة «النفوذ» وأيضًا «السلاح» (الفعلي والرمزي والاعتباري)، في مقابل النهضة التي تعتمد طول البال والصبر الجميل وقدرة عجيبة على التحمّل…

لا يمكن لحركة مثل النهضة أن تذهب في خيارات تغضب (جانب غير هيّن من) قواعدها الشعبيّة دون أن يكون في الأمر، ما يلزمها على ذلك، ودون ما يكون في الأمر من «المغريات» بتجاوز هذه «الدولة» العميقة إلى «موازين قوى» (مجرّدة) ضمن المعنى «الكمّي» للقيس (أيّ الانتخابات)، لتجد النهضة حظّها الذي هو (وفق موازين القوى القائمة) أفضل من «حظوظ» خصومها…

تتّكل النهضة للقضاء على هذه الدولة العميقة، على عامل الزمن وكذلك على تآكل هذه «الماكينة» من الداخل بحكم حروبها الداخليّة وأساسًا (وهنا الجوكر الذي تعوّل عليه النهضة) ما ترتكب هذه «الماكينة» من «أخطاء» تجعل «المجموعة الدوليّة» (أيّ الدول ذات النفوذ في تونس) ترى فيها خطرًا على مصالح هذه الدول…

في علم الطبيعة كما في السياسة، يتبادل «الخصوم» الذكاء، أيّ مع الوقت، يصير كلّ طرف أدرى بطبائع الطرف المقابل، لذلك يأتي جزء من هذه الحرب، اخفاء الذات ومن ثمّة التحرّك وراء الستار. حركة النهضة على هذا المستوى أقرب إلى «الكمال» حين استطاعت على مرّ سنوات السجون والتيه والمنافي والشتات والمراقبة الإداريّة وما شهدت من اذلال، تطوير طاقة غريبة على «التقوقع» عند الحاجة أوّلا، والذهاب أقصى ما يمكن في مبدأ «التقيّة» (يدخل الأمر في فقه «الضرورات»)، وأخرها الاحتفاظ بجزئها للفاعل والأقوى (أيّ التنظيم) خارج «اللعبة» الديمقراطيّة وأضوائها، لأنّ لا أحد، بعد أن سقطت حكومة «الترويكا» وعودة «الدولة العميقة» إلى السطح من جديد، قادر على الجزم بعدم النكوص أو عدم الرجوع إلى «العهد السابق» (أو هي نسخة منقّحة منه)…

 

يعلم أباطرة الدولة العميقة وكذلك تعلم قيادات حركة النهضة أنّ المواجهة محتومة يوما ما بين الطرفين، لذلك يتمّ الاستعداد لها في فصل (اجرائي فقط) لهذه الجولة الحاسمة عن مستويين:

أوّلا: مستوى الخطاب الديمقراطي الظاهر والجاهز للاستهلاك الاعلامي والدعائي (سواء الداخلي أو الخارجي)،

ثانيا: مستوى حروب التموقع التي هي أقرب إلى «غزوات» تبحث عن «غنيمة المواقع»

ثالثًا: اقناع أقصى ما يمكن من الأطراف الاقليميّة والدوليّة، سواء بالقدرة على الغلبة أو (في أسوأ الحالات) بالبقاء على الحياد…

 

يمكن الجزم أن الحليف الأوّل للنهضة، يكمن في غياب حزب مثلها قادر على أمرين:

أوّلا: اثبات القدرة على «التجييش» (بمقدار) عند الحاجة، ومن ثمّة اثبات الوزن الانتخابي،

ثانيا: قدرة القيادة على الذهاب في «خيارات مؤلمة»، قد تثير حفيظة جزء من «القاعدة»، لكنّ الغالبيّة العظمى أو سواد هذه الكتلة، سيصوّت للمشروع وثانيا سيلبّي النداء عند حصول مواجهة…

ثالثًا: (وهذا الأخطر) فراغ الساحة وخلوها من أيّ طرف يملك القدرة على تعبئة الفراغات التي تركها «النداء» أو الأحزاب «ذات الاستعمال الواحد» (أي غير قابلة للشحن إلاّ مرّة واحدة)…


26 تعليقات

  1. تحليل عميق وجدير بالقراءة لوﻻ الأخطاء المتكررة خاصة وباﻹضافة إلى تلك التي أشارت لها الأخت سنية وأقصد هنا استعمال الأرقام، ففي أكثر من موضع تقدم نقطتين لنجد ثلاث أو أربع
    الرجاء تثمين تعاليقنا بإصﻻح المحتوى

  2. التقيّة ليست حكرًا على الشيعة ولا يمكن أن نحكم من باب القطع أن من يستعملها، يفعل ذلك تقليدًا للشيعة، بل هناك (في حسابات النهضة) ترتيب للأولويات وتأجيل للصراعات

  3. كررت في مقالك كلمة “التقية” في أكثر من مرة ، هل تقصد أن الغنوشي يستعمل أسلوب الشيعة في العيش بين الأعداء !؟؟؟ ألا يمكن للنهضة أن تتعلم من الدولة العميقة و تبعث مندسين لخصومها باستعمال التقية !؟؟

  4. الرجاء إصلاح الأخطاء:

    المنافسين بدل النافسين
    الآخر بدل الأخر
    آخرها بدل أخرها

  5. الهادي بنلطوفة

    النهضة متفوقة بالنقاط حتى اللحظة

  1. تعقيبات: nfl store locations

  2. تعقيبات: Lafuma store online

  3. تعقيبات: lafuma聽gore tex jacket

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي