إضراب البريد: مضمون الوصول…

20 يونيو 2016

يعلم النقابيون أو هم يتعلّمون منذ الدرس الأوّل في علاقة بالطرف المقابل (مهما كان) أنّ «العمل النقّابي» عمل مطلبي، ومن ثمّة تأتي «القوّة» عامل ردع يتمّ التلويح به وليس الاستعمال في كلّ حالة، لأنّ المرور إلى التنفيذ، يؤدي إلى ضرورة التصعيد (في المرّات القادمة)، مع التذكير بل هي القاعدة الذهبيّة أنّ «العمل النقّابي عمل مطلبي»، أيّ المطالبة بالأقصى من أجل نيل المقبول…

الجهة النقّابية التي قرّرت وأقرّت «إضراب البريد»، إمّا أنّها جاهلة بهذه الأبجديات أو هي (وهنا السؤال والخطورة) مستعدّة إلى «تصعيد»، أو معاودة الإضراب أو الذهاب إلى «إضراب مفتوح»….

 

هناك خلط مرضي وخطير لدى هذه القيادة النقّابيّة بين «نُبل الغاية» من جهة مقابل «خطورة القرار»… عون البريد الذي تمّ إيقافه «مظلوم» قطعا، بل هو على حقّ، حين رفض «التعليمات الشفاهيّة» وأصرّ على أن تكون الوثائق متوافقة مع ما نصّ عليه القانون. لكن (في المقابل) يأتي الإضراب متجاوزًا بل مبالغًا في اللجوء إلى هذا «الشكل النضالي» (المبالغ جدّا)، حين وجب الاعتراف أو هو الإقرار بأمرين:

أوّلا: أنّ القرار، أي إيقاف العمل عند سماع خبر الإيقاف، كما قرار الإضراب، يأتي مبالغًا فيه، وبالتالي يضع «أزمة الرجل الموقوف» في معادلة أخطر وأشدّ تعقيدًا من «خطأ» مقابل «فرد»، إلى «أزمة وطنيّة» تتأسّس على «ليّ الذراع»، بل هو «كسر العظام» بين «الماكينة القضائيّة» في مقابل «الماكينة النقّابيّة»

ثانيا: ضمن الأجواء المتوتّرة التي تعيشها البلاد، يأتي اللجوء إلى هذه «الحلول» (القصوى) من قبل «نقّابة البريد» أمرًا شديد الخطورة، حين تصبح القوانين وكذلك التشريعات (مهما كان الرأي بخصوصها والموقف منها) عديمة الفعل ومنعدمة التأثير، أمام «موازين القوى» ذات «المرجعيّة القبليّة»، أيّ (وهنا المصيبة)، تصبح قوّة الفرد (أو هو المواطن المفترض)، مرتبطة بما يملك وراءه من «قوّة»، وليس ما تضمن الدولة من علويّة «القانون»…

posteإحقاقًا للحقّ، ومن باب الأمانة الأخلاقيّة قبل التاريخيّة، ما أقدمت عليه «نقّابة البريد» لا يمثّل سوى «مواصلة» لنهج كامل، أسّست له نقّابات وأحزاب، وكذلك وسائل إعلاميّة، دون أن ننسى «القوى الجهويّة» التي أسّست (جميعها) لمبدأ «انتزاع الحقّ من خلال القوّة» أي «قوّة العدد» وليس (وهنا الخطورة) «قوّة القانون»….

 

هي حالة انفصام خطيرة، وصدام مرضي، بين «التبجّح» بما هي «الديمقراطيّة» وما يتبع من «انتقال ديمقراطي»، ممّا أسّس (لما يسمّى) «المثال التونسي»، في مقابل، قوى جهويّة ونقّابيّة وسياسيّة وحتّى اعلاميّة، تنال حقّها خارج القانون وبفعل الضغط وقوّة العدد…

لا يمكن اتهام شخص بعينه أو تبرئة أيّ كان، هي أزمة شاملة، بل الأزمة (أو هو المرض) في استسهال «الفعل» إن لم نقل تحويله إلى «فعل بطولي» يتمّ التباهي به وجعله من أسباب التباهي…

 

لم تعد الدولة من يحتكم السلطة والمال والسلاح (ضمن المعنى الواسع لكلمة سلاح)، يمكن لأيّ جهة كانت أن «تغترّ» وتقدّر قوّتها وتقيس ما تملك من قدرة، ومن ثمّة تمرّ إلى «الابتزاز» أو هو «تعطيل» المصلحة العامّة، سلاحًا أو هو تهديدا لنيل المطالب.

 

المزاج العام متوتر جدّا، بل هو معاد لهذا الإضراب، ليس من باب الموقف من «عمليّة الإيقاف» (في ذاتها)، بل (وهنا الخطورة) لما سببه هذا الإضراب من «أضرار» مباشرة أوّلا، وكذلك من حال «توتّر» وأيضًا ودون أن ننسى الصورة التي صنعها عن الوضع العام في البلاد.

السلطة السياسيّة في البلاد، موضوعة أمام خيارين يتوفق كلّ منها على الأخر مرارة، إمّا دفع السلطة القضائيّة للتراجع والافراج عن «الموقوف» ومن ثمّة التأسيس لسابقة «خطيرة»، أو (وهذا لا يقلّ خطورة)، الرفع من منسوب التوتّر ودفع «نقابة البريد» إلى مزيد التشنّج، ومن ثمّة التصعيد…

 

في هذه الحالة أو تلك، يكون «الانتصار للأقوى» وليس للقانون أو للعدالة، بل الأخطر ضمن هذا المشهد الشبيه بصراع في «حلبة المسارح الرومانيّة» أو ما هي «معارك الكاوبوي» في الغرب الأمريكي، أن تشعر «النقّابات» القويّة الأخرى، أنّ من «حقّها» أن تطالب ما تريد، في حين يحسّ المواطن الذي «لا نقّابة وراءه» أنّه مغبون، ممّا يدفع إلى صياغة «هويّات» (أو جهات انتماء) تأتي أقرب إلى «العصابات الإجراميّة المسلحة» من كلّ الأشكال التنظّم الأخرى التي تتأسّس على قاعدتها المجتمعات، أيّ الأحزاب والنقابات والجمعيات، في معناها الأصلي، أي المتوافق حدّ التماثل والامتثال للقوانين الديمقراطية (حقّا)…

عندما نوسّع دائرة الرؤية ونعمّق التحليل (بخصوص هذا الإضراب)، نشاهد صراعًا قاتلا، بل هي معركة حياة أو موت، بين مفهومين:

أوّلا: مفهوم «الحقّ» في علاقة بالذات (الفرد ومن ورائه النقابة في مثل هذه الحالة)، في مقابل عدم الاكتراث بما يمكن أن يعني أيّ نقّابة أخرى.

ثانيا: مفهوم «علويّة القانون» الذي وجب (افتراضًا) أن يكون ذاته، للفقير كما للغنيّ، للقوّي كما للضعيف، للعاطل كما للعامل، بل وجب على «المواطن» أن يتخلّى أمام القانون عن أيّ من هذه المرجعيات.

تعيش تونس أمام هذا الإضراب، وما سبقه (من أشكال الابتزاز) نظامًا أشبه بما كان زمن «الإغريق» القدامى، مواطنون ينعمون بالحقوق كاملة، في مقابل «من هم أقّل درجة» لا معين لهم ولا نصير ولا سند، أيّ على صورة «العبيد» في ذلك العصر…

 

لنطرح سؤالا في غاية البساطة: من سيُضرب من أجل «بائع دلّاع» على الطريق العمومي حين تعرضه لمظلمة مشابهة؟

النقّابة التي أضربت من أجل «موظفها»، حين لا تضرب من أجل «بائع الدلاّع»، تثبت أنّ ولاءها للعمل والهويّة النقّابية أوسع وأعمق من الولاء للهويّة الوطنيّة…

تلك هي «الهويّات الحارقة» التي ستحرق البلاد، حين ينام السياسيون «في عسل» حكومة الوحدة الوطنيّة…


92 تعليقات

  1. محمد الناصر الفرجاني - تونس

    المشكلة أكبر، و أخطر من مجرّد “هوج، و تعنطز قاضي”، نسي أنّ مهمّته و واجباته حماية القانون، و إحترام الإجراءات الإداريّة، فبادر دون تروّي، و إعمال العقل في هذا الظّرف الكارثي من الإحتقان الإجتماعي-المعيشي، بادر، و دون توضيح الحقيقة كاملة، لإيقاف موظّف لأنّه رفض تسليم وثائق من دون توكيل رسمي!؟ و لا هي نتيجة “عقليّة الفزعة، و الحميّة القبليّة، و المهنيّة…” التي تربّى عليها اليساراويّين، و النّقابيوّن، و حتى الإسلاماويّون منذ عقود. و لعلمك أخي، نحن الآن تحت رحمة مجموعات هائجة من المهرّجين، و المشعوذين، هبّوا، بل فقّعوا علينا في ليلة ما فيها ضوء قمر، و سيطروا على السّاحة، و مقابلهم “أشباه سياساويّين، ذوي أيدي مرتعشة، ما صدّقوا على ربّي أن شفوا غليلهم، و جلسوا على الكراسي، أو تمكّن بعضهم من المبيت بقصر رئاسة و في غرفة جلاّده، و خنّاقه، و محتقره، و مهينه، أو بمنزل وزارة!؟”. و هذا، جعلهم يرتعشون أمام كلّ مهرّج، حتى إستساغ، و إستسهل هؤلاء الإحتجاجات، بل و أصبح كلّ السّياساويّون ينظّمون هذه الوقفات، و يستعملونها تهديدا ضدّ بعضهم البعض، و ضدّ العمدة، و المعتمد، و الوالي، و الر.م.ع، و المدراء، و حتى الأطبّاء، ناهيك عن مراكز الأمن، و الحرس الوطني!؟ نعم، قطعوا إنتاج الفسفاط، و خرّبوا إقتصاد البلاد، و أمنه، و لم، و لا، و لن يرجف لهم جفن خوفا على بلادهم، و مستقبل أولادهم، و أجيالهم!؟ و الحلّ حسب إعتقادي بحاجة “للحجّاج إبن يوسف الثّقفي من جديد”، يخرج علينا صارخا: يا أهل العربان، يا أهل الشّقاق، و النّفاق، إنّي أرى رؤوسا قد أينعت، و حان قطافها، و إنّي لقاطفها!؟ نعم، و يردّد مقولة إبن خلدون: إتّفق العرب على أن لا يتّفقوا، و إذا عربت خربت، و إذا خربت لن تعمر!؟ للأسف، لا حلّ إلاّ بإنقلاب عسكري تقوم به مجموعة من الضبّاط الرّجال الشّرفاء من الأمن، و المخابرات، و العسكر، و يقومون بتنظيف البلاد من “مافيات، و لوبيّات المتعهّدين، و رؤوس الأموال من مموّلي الأحزاب، و كنس كلّ جمعيّات المجتمع المدني عميلة المخابرات الأجنبيّة، و الأحزاب العرّة، و تنظيف كلّ المنظّمات المهنيّة، و دفن كلّ هؤلاء اليساراويّين، و القومجيّة، و الإسلاماويّينن و العلماء الجهّالة المشعوذين، و ذلك حماية لكلّ حكومة تقرّر أن تقوم بمقاومة الفساد، و إصلاح الأوضاع قبل أن نصل للهاوية، و لأتون حرب أهليّة، لا قدّر الله. من دون كلّ هذا، لن يكلّف، و يوضع بالمسؤوليّات إلاّ الفاشل، و التّافه، ضحل التّفكير، و أخوه، و لن تكون هناك لا رؤية لكيفيّة معالجة الأوضاع الرّاهنة المتردّية، ولا برنامج او مخطّط تنموي لتفادي الكارثة التي يتوقّعونها في 2017، لا قدّر الله.

  1. تعقيبات: factory canada goose online

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي