اتّحاد الشغل: من السياسة وبالسياسة ولا شيء غير السياسة…

9 يناير 2016

الذين (عن غباء أو السذاجة أو الاثنين معًا) يعربون عن صدمتهم من تطلّع الاتحاد العامّ التونسي للعب دور سياسي في البلاد، هم كمثل من ينزلون في مطار طهران ويعلنون صدمتهم من «ولاية الفقيه»، أو أنّ إيران ليست «ديمقراطية» على «النمط الغربي»…

الاتحاد العام التونسي للشغل نشأ في السياسة، واشتغل في السياسة، ولا يمكن تخيله، مجرّد «نقابة شغل» خارج السياسة، كمثل القول بفصل «الدين عن الدولة» في البلدان العربيّة الاسلاميّة.

مجرّد مقولات جاهزة وقوالب لا علاقة بالواقع، مهما كان هذا الواقع، ومهما يكن الموقف منه….

 

وُلد الاتحاد العام التونسي للشغل، في صورة «الوعاء النقابي» الحامل أو صاحب «المشروع السياسي»، من ثمّة يكون الواجب، قبل اصدار الاحكام، الرجوع إلى عمق التاريخ، وقراءة المشهد وسيرورة التاريخ.

المسألة أو المعادلة التي تطرحها الرسالة أو البيان الذي نشره الاتحاد العام التونسي للشغل، بشأن التحوير الأخير تتألفّ من أبعادٍ ثلاث:

أوّلا: البعد الدستوري: أو هو التشريعي، الذي يعطي تعريفًا ويقدّم دورًا لكلّ طرف في البلاد، ومن ثمّة، حين نعتبر أن تونس استلهمت دستورها وقوانينها من «المنظومة الغربيّة»، حيث لا يمكن للنقابات أن تدعي أو تمارس دورًا سياسيّا (مباشرًا)، حين يأتي النقابات جزءا من «المجتمع المدني»،

ثانيا: البعد الواقعي: الذي نراه ونشهده، من تداخل بين المجتمعين المدني والسياسي، وغياب الفوارق على مستوى المجالات كما التعريفات، بل صار الجميع يلعب أو يريد اللعب في المجالات جميعها، دون أن تؤثر أي عملية «نقد» أو «انتقاد» لهذا «الاختلاط» الخطير، وأساسًا المنافي أو المناقض مع (نصّ) «الدستور» وجميع ما تفرّع عنه.

ثالثًا: البعد المطلوب: حين لا يمكن القبول بالأمر الواقع، وكذلك لا يمكن لأحد أن يتخيّل انتقالا فجئيا ومباشرًا من هذا الوضع، إلى ما يقتضي الدستور وما جاءت به القوانين،

من ثمّة لا يمكن أن نبقى أسرى التنظير الذي يحلّق في الطوباويات ذات المرجعيات الغربيّة المسقطة على البلاد، كما لا يمكن القبول بالأمر الواقع وما صار من تداخل مريع، بل مريب، وحتّى معيب، بين المجتمع السياسي والمدني.

 

UGTT2

الاتّحاد العام التونسي للشغل

يتناسى البعض عن ضعف في الذاكرة أو عن رغبة في التذاكي أنّ الاتحاد العام التونسي (إلى فترة قريبة جدّا)، كان راعيا وكذلك المبادر إلى الدعوة إلى «الحوار الوطني»، الذي تحوّل (مهما يكن الموقف منه) إلى «الخيمة الكبرى» التي اجتمع عندها «الفرقاء» (جميعًا) وسلّموا لهذا «الرباعي» الذي يحتلّ فيه الاتحاد مكانة هامّة بل نصيب الأسد، لنجدهم اليوم يبكون هذا «التدخّل» من قبل الاتحاد، أو رغبته في أن يتمّ «الاستئناس برأيه»…

هناك «عمى سياسي» يحكم البلاد، وكذلك «نشاز» خطير على مستوى الوعي، أي وعي النخب، التي أحيانًا تخاطبنا (أو بالأحرى تخاطب ذاتها أو بعضها) بمنطق «الديمقراطيّة» (ذات النفس الغربي) من تفريق (شكلي) بين السلط وفوارق (بيّنة) بين كلّ من المجتمعين المدني والسياسي، وأحيانًا (تحت ذريعة «المصلحة الوطنيّة»)، ليس فقط تطالب، بل ترفع الصوت مطالبة أو هي مشرّعة لتجاوز سلطة منتخبة (من قبل الشعب) إلى «مبادرة» (حوار) لا تأخذ شرعيتها (من الشعب) وكذلك تستدعي من أسقطهم الشعب في الانتخابات…

ذلك ما يفسّر هذه المعارك السفسطائيّة والحروب الكلاميّة التي لا تنقطع، كلّ على «ليلاه» يغنّي، وكل في «هواه» ماض دون الالتفات إلى الأخرين. بل يمكن الجزم أنّنا في زمن أشبه بتغيير «الموجات» في أجهزة الاتصال العتيقة، حين لا يدري المرء، قبل سماع «المتحدثّ» عن «الموجة» التي سيعتمدها، بل الكثير يعمد أثناء الحديث إلى تغيير «الموجة» دون ربط بين السابق واللاحق أو دون اقناع المستمعين أو المشاهدين بوجاهة هذا التبديل…

مجرّد جرد في الخطاب السياسي في تونس، منذ 14 جانفي إلى الآن، يظهر لنا مدى التغيّر «الخطير» وكذلك «المرضي» في خطاب المتحدثين من المجتمعين السياسي والمدنى…

 

إحدى أسباب المصائب في هذه البلاد، هذا الجهل المدقع بالتاريخ أو عدم اعتماد القراءات التاريخيّة والقراءات الفكريّة في تحليل الواقع الذي تعيشه البلاد. اتحاد الشغل (مثلا) جاء إلى الدنيا من رحم السياسة، بل يمكن الجزم (رجوعًا إلى التاريخ) أنّ انشاء الاتحاد (من قبل فرحات حشّاد ومن معه) جاء (في أحد أسبابه) للالتفاف على القانون حينها الذي كان يمنع تشكيل الأحزاب ويسمح بتأسيس النقابات، فكان «الاتحاد العام التونسي للشغل» وليدًا نقابيا، بروح سياسيّة، بل (وهذا الأهمّ) ضمن رؤية تحرّر وطنيّة، تتجاوز «العمل النقابي» (التقليدي)…

بقي «الاتحاد العام التونسي» (رغم ما قد نحمله من نقد لمسيرته) ما هو دارج في التعبير الفرنسي «كائنا سياسيّا» Une bête politique، أي لا يمكن أن نتخيّل هذا «الطرف النقابي» منحصرًا في «المدى النقابي»….

 

بقي لنا (بل من الواجب) نقد هذا التعاطي مع «السياسية» منذ النشأة والدور الذي لعبه الاتحاد وحشاد في غياب القيادات السياسيّة، أو بُعيد الاستقلال في أن كان الاتحاد «الوعاء» الذي احتضن في مؤتمر الحزب في صفاقس بتاريخ 2 مارس 1959، انقلاب بورقيبة على صالح بن يوسف، بل يمكن الجزم دون أدنى شكّ، أنّ بورقيبة ما كان ليفكّر في الانتصار على غريمه لولا شبكة الاتحاد وقوته….

بقي أن ننظر إلى الواقع ونستشرف المستقبل بين «الأمر الواقع» الذي نعيشه في مقابل «الواقع» الذي نريده، بل نحلم به، حين لا يجب أن نعيش في الأوّل دون أمل، وكذلك حين وجب ألاّ نعيش في الثاني دون احساس بهذا الواقع المرير…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي