الجنوب التونسي: صوم دهر والإفطار على جرادة…

7 سبتمبر 2016

قامت الحرب الكلاميّة بخصوص «الجنوب التونسي» ولم تقعد بعد، وكأنّها (أو هي كذلك) شحنة من الانفعال والغضب وحتّى الكبت (في معنى علم النفس السريري) يحتاج إلى «شرارة» يفرّج من خلالها وعبرها، عن كمّ القهر ومحيطات الألم وما ركد من ظلم ذوي القربى (أو ذوي الوطن) لقرون عديدة أو على مدى سنوات الاستقلال (خاصّة)…

هناك تناقض أو هو تواتر بين نقيضين على مستوى الفهم، لكنّ يكملان بعضها على مستوى الأداء وحتّى المهام (السريّة منها والعلنيّة):

أوّلا: منطق «العصافير تزقزق» على كامل الجنوب التونسي، وأنّه «غارق في الخيرات» أو ربّما تبرّم السكّان أمام «الكمّ الهائل» من الرخاء، أو هم صاروا يحنّون إلى حياة الشظف والخشونة، كما يحنّ السيّاح إلى شمس الجنوب الحارقة..

ثانيا: منطق الجنوب على قاب قوسين أو أدنى من «حرب انفصال» وأنّ الأيادي (أو هي الأصابع) هناك على الزناد، في سيناريو (مفترض) أشبه ما يكون بسيناريو الأكراد في سورية أو العراق.

 

بين هذه وتلك هناك جنوب في تونس يعاني حقيقة من أزمة مزدوجة:

أوّلا: أزمة البلاد بكاملها، من أقصى شمالها إلى أدنى جنوبها، ومن منطقة الساحل إلى حدود البلاد مع الجزائر، أيّ أزمة مجتمع منذ الاستقلال، وعجز الدولة (وريثة الاستعمار) عن توفير الحدّ الأدنى من «حلاوة الحياة» على كامل البلاد، ومن ثمّة يمكن الجزم أنّ الأزمة (منذ الاستقلال على الأقلّ) تتوزّع على كامل البلاد، دون استثناء،

ثانيا: لأسباب تاريخيّة (زمن الاستعمار الفرنسي البغيض) بقي الجنوب (الذي كان يخضع حينها للحكم العسكري) متخلفا ضمن التخلّف العام للبلد، وكذلك (وهنا المصيبة) لم تفعل الدولة (وريثة الاستعمار) أو لم تبذل جهدا، سواء للتأسيس لمنوال تنمية عادل وقادر على تحقيق التنمية الحقيقيّة، وكذلك عجز عن النظر إلى هذه الجهة المحرومة (ضمن الحرمان ذاته) بعين ما صار يسمّى «التمييز الإيجابي»، أيّ العمل على التنمية أوّلا (أسوة بسائر مناطق البلاد) وكذلك العمل على تقليص الهوّة في هذا الجنوب المعدم، مع سائر مناطق البلاد….

تعاملت النخب التي حكمت تونس منذ الاستقلال بمنطق جهوي بغيض، بل هو متعمّد ومقصود ومنهجي، أو فيه الكثير من القصد وكمّ غير هيّن من «الشماتة»، أيّ حصر «فتات التنمية» وكذلك الاستثمارات، في النصف الشمالي من البلاد، وأساسًا في المناطق المطلّة على البحر.

 

من المؤسف ومن المبكي ومن المرضي، أنّ صارت مناطق تونس تباهي بعضها، ليس بالتنمية والتطوّر وتحقيق «حلاوة العيش»، بل (وهنا الأخطر) بما هي عليه من «ضعف في التنمية»، أيّ بمعنى أنّ من يملك «بقايا أكل» (الأغنياء)، يباهي ويفاضل ويفاخر من يبحث في القمامة…

 

الجنوب في حال من التوتّر المزعج، هذا لا يحتاج إلى دليل ولا ينكره سوى جاحد أو مريض أو منافق (لكلّ من هؤلاء أن يختار ما يليق من توصيف)، لكنّ هذا «التوتّر» (الحقيقي والثابت) لا يعني أنّ منطقة عين دراهم تعيش ما تعرفه سويسرا من رغد العيش، أو أنّ منطقة القصرين تعيش على مستوى أرياف أستراليا!!!!

BenGardaineمن العبث ومن المرض ومن النفاق القريب من الخيانة، البقاء أو هو دوران في أسئلة مفرغة عن «توتّر الجنوب» مقابل «رفاهة الشمال»… الأسئلة الحقيقيّة أو هو السؤال الأهمّ يخصّ «منوال التنمية» المعتمد منذ الاستقلال إلى الآن، وقد أدّى إلى هزّة اجتماعيّة كلّ عشريّة (أيّ 10 سنوات) على الأقل، وقاد السكّان إلى الانتفاض ضدّ نظام بن علي، ليكون التساؤل (بعد 14 جانفي) عن الأسباب التي تجعل البلاد تشرب السمّ (أو تعاود شربه) على سبيل التجربة.

 

في خطابه من على منبر مجلس نوّاب الشعب، بشّر (النابغة) يوسف الشاهد (أشبه بما فعل الحجّاج بن يوسف مع فارق في البلاغة طبعًا) بالأمرّين، بل أعلن صراحة عن التخفيض في موازنة الصحّة والضمان الاجتماعي وتجميد الاستثمار في التنمية والبنية التحتيّة، أيّ أنّ الرجل ليس فقط يداوي بالذي كان هو الداء، بل جعل السمّ ذاته ترياقًا….

 

هو حال من التخبّط والأيدي المرتعشة العاجزة عن تقدير الأمر، أبعد من عشاء تعدّه زوجته، فما بالك بمصير البلاد ومستقبل العباد، مع ما تعرف تونس من «جبهات صراع» (قائمة) مع أخرى تترقّب الشرارة، سواء في الجنوب الفقير أو الشمال المعدم…

من ذلك يأتي جزء من «الملهاة/المأساة» المفاضلة بين فتات الشمال مقابل جوع الجنوب، بل وجب (وهنا تكمن خيانة النخب) الخروج من هذا التنابز الثنائي والمقصود والمتعمّد إلى «مشروع وطني» جامع وشامل، ينظر إلى البلاد على أنّها ذات واحد، كلّما أحسّت ولاية بالحمّى تداعت لها سائر الولايات بالسهر…

 

سقطت النخب في فخّ الشعوبيّة (الرخيصة والمقيتة)، وصولا إلى زيارة (الشيخ) راشد إلى منطقة الحوض المنجمي وزرعه قنبلة عنقوديّة موقوتة، حين تحدّث عن «حقّ الجهة في (جزء من) ثرواتها»… لا تعني المسألة نوايا الرجل ولا مراميه، وهل كان يبحث عن التهدئة أم جاء يشعل نارًا، فقط هو أسّس لما يمكن أن نسمّيه «الانعزاليّة الجهويّة» أيّ أنّ كلّ جهة صارت تفكّر في «أنانيّة» في اقصاء لغيرها من الجهات، ليكرّ الحبل على الجرّار وتفكّر كلّ جهة في «الانفصال» بميزانيّة وربّما جعل «حدود» تمنع «الغرباء» من باقي الولايات…

 

عوض الاجابة عن الأسئلة المصيريّة من خلال أجوبة عميقة وتقديم قراءات موضوعيّة ومن ثمّة وضع خطط استراتيجيّة، لم تفعل حكومات ما بعد «الاستقلال» سوى ممارسة «الأنانيّة الجهويّة» أو الاستثناء الإقصائي أو حتّى استنزاف خيرات الجهات، من أجل منوال تنمية أثبت فشله منذ عقود… ليكون الخطر ليس في انفصال «الجنوب» بل في التفتيت، أيّ أن تصبح كلّ «حومة» دولة «كاملة السيادة»…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي