الشاهد: يرى سنوات «عجاف» بوزراء «سمان»…

27 أغسطس 2016

التلفزيون التونسي الذي نقل خطاب يوسف الشاهد أمام مجلس نوّاب الشعب، كان عليه (أو على المخرج) أن يضع على الشاشة وجه كلّ من عبيد البريكي ومحمّد الطرابلسي، لحظة نطق رئيس الوزراء (هذا) بكلماته حول «التقشف والتخفيض من ميزانية الصحّة والضمان الاجتماعي»، وكذلك (وأساسًا) «تسريح العمّال من الوظائف»…

كلمات مرّت مثلما روى الفيلسوف الفرنسي «ألبار كامو» موت أمّه، أيّ في شكل «خبر عابر» أو هو «تفصيل» (من جملة التفاصيل)…

 

قرار مثل هذا أو هو مجرّد التلميح أو حتّى الإشارة، كان سيشعل الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي بدخوله الحكومة (بوزيرين) صار مخيّرا بين الصمت (علامة القبول والرضا) أو مغادرة الحكومة ومن ثمّة القطع مع هذه «اللعبة» التي تأتي خيوطها أو هي تذهب حدّ «صندوق النقد الدولي» بمعيّة «البنك الدولي» وكلّ الجهات الشريكة والمشابهة….

 

أخلاقيا وقانونيّا، لا يمكن لرئيس الوزراء الجديد أنّ يدّعي «براءة» من سيرة حكومة كان ضمن تشكيلتها، ومن ثمّة تنتفي (عقلانيّا) صورة «الفارس القادم على حصان أبيض» لمقارعة الفساد، حين تستوجب هذه المهمّة أكثر من حكومة (من هذا الرهط)، فقط سيحارب «بعض» الفساد لفائدة البعض الأخر…

Cadavre de vacheكذلك وهذا الأهمّ، جاء الصراخ هائلا والتكبير مرتفعًا من «المحلّلين» كما «الصحافيين» وكذلك عامّة الناس، حين رأى الجميع (دون استثناء) أنّه (أيّ يوسف الشاهد) نجح في مهمّة «تمرير الرسالة»، أيّ (بصريح العبارة) أنّ الرجل نجح (في قول ما قال)، في حين أنّ «فعله الأوّل» (أيّ تشكيلة الحكومة ذاتها)، جاءت منافية لفعل «التقشّف» (هذا)، والحال أنّنا نقف أمام «أربعين» وزيرًا وكاتب دولة وعلى رأسهم (أشبه بما يكون «علي بابا») يوسف الشاهد ذاته.

 

حكومة لم تنجح في كبح تضخّم الوزراء وكتّاب الدولة، عاجزة عن انجاح عمليات التقشّف والحدّ من المصاريف وكذلك جعل الشعب يقتنع بضرورة التخلّي عن مصاريف الصحّة والضمان الاجتماعي.

 

في بلد يشكو فيه الجميع (دون استثناء) من تردي خدمات الطبّ العمومي، سواء لضعف التجهيزات أو تراجع الميزانيّة، سواء في مناطق الحرمان والفقر أو في المدن الكبرى، يأتي السؤال (معرفيّا واستنكاريّا) عن مستوى هذا «التقشّف» الذي سيصيب «قطاع الصحّة»؟؟؟

يمكن الجزم أنّ كلام يوسف الشاهد يأتي ترجمة حرفيّة ونقلا وفيا سواء للوصفة التي يعتمدها البنك الدولي أو ما كان الالتزام التونسي به لمواصلة الحصول على القروض. كذلك وعلى ضوء جميع التجارب السابقة في كلّ البلدان التي مسّها «داء» هذا الصندوق، لم يسبق مرّة واحدة، أن نهض البلاد وعمّت الخيرات، فقط (في أقصى الحالات) سداد الديون واستفادة «رأسمال» على حساب «الطبقة الكادحة».

 

العلاقة بين «رأسمال» (المحلّي) وما هي «الطبقة الكادحة» أو النظرة إليهما، لا تأتي من منظور «طبقي» (ماركسي)، بل (ما هو أخطر)، التوازن (في حدّه الأدنى) الضامن للاستقرار الاجتماعي في البلاد….

 

ممّا يزيد هشاشة هذا التوازن بل خطورة الوضع، أنّ «رأس الحربة» في الدفاع عن «الكادحين»، انتقل إلى صفّ «رأسمال» ممّا يعني أنّه سينتقل إلى «منع» التظاهرات والتنديد بفاعليها، وصولا إلى «المساهمة» (الفعليّة ربّما) في قمعها بالعصيّ والهراوات…

انعدام التوازن «الاجتماعي» (الفوقي) الذي كانت تمثله «المفاوضات» بين اتحاد الشغل واتحاد الأعراف برعاية الدولة، رغم ما فيه من «هنّات»، أو ما قد نحمّله من «اخفاق»، كان يمثّل (إلى حين تشكيل حكومة الشاهد) صمّام الأمان أو بالأحرى «الحلبة الوحيدة» للصراع الاجتماعي… حالات الخروج عن هذه «الحلبة» (أيّ حلبة المفاوضات الاجتماعيّة) إلى الشارع، كانت بقرار وأمر وتأطير وإشراف اتحاد الشغل، الذي فقد القدرة على ذلك، إلاّ (وهذا الأخطر)، أنّ يذهب الاتحاد إلى الانقسام والتشظي…

 

حصيلة جميع هذه السيناريوهات هو «لجوء» العمق الشعبي إلى الشارع، دون قيادة «موثوق بها»، ممّا يعني أنّ التسيّب سيكون الحكم والعنف دون حدود الفيصل.

 

كلام الشاهد جاء «قنبلة صوتيّة» انفجرت بين صفوف اتحاد الشغل، ستعقبها قنابل أخرى بين «العنقوديّة» وكذلك «شديدة الانفجار»، التي بدأت تشتغل عليها (أيّ القنبلة) جميع «شقوق» الاتحاد وكذلك «اليسار»، حين تباينت الآراء بين «المرجئة» (أي إرجاء الحكم) ومن قالوا أنّها «منزلة بين المنزلتين»، وصولا إلى «الروافض» (من رفضوا المشاركة من أساسها)…

نظر الباجي (العقل المدبر لهذه الخطط الجهنميّة) إلى مسألة التفتيت هذه في صورة الحلّ الأوحد لضمان سيطرة شخصه وعائلته ومن ثمّة حزبه على المشهد السياسي، أيّ أنّ الرجل نظر إلى «حلبة الصراع» (السياسي) ولم يلق نظرة واحدة (وحيدة) أسفل الحلبة، أيّن سيسقط الجميع دون استثناء…

 

لم يستطع بن علي بما ملك من سطوة في الحكم (على وزرائه وكامل الإدارة) وما ملك من أدوات القمع، أنّ يوفّق في التأسيس لمشروع يجمع «النجاعة» (في مفهوم البنك الدولي) بما هو «الاستقرار الاجتماعي)… فترة 17 ديسمبر/14 جانفي، يمكن الجزم أنّها مثلت «اهتزاز الحلبة» إلى حين اسقاطها في خضم «الثورة» المزعومة…

 

الترنّح القادم، وسيكون في غياب قوى الشارع أي القوى القادرة على السيطرة (اتحاد الشغل ـ النداء (وريث التجمع) ـ النهضة)، ممّا يعني أنّ الشارع العاجز عن «فرز قيادة مركزيّة» سيكون أشبه بما هي «حركة التمرّد» من «ثورة» (تقدّم البديل)…

ليس في المسألة قراءة كفّ أو ضرب في الرمل أو التلاعب بالأقداح، بل قراءة موضوعيّة لمحصّل طبيعي، حين يأتي البرلمان (أو هو أصبح) أشبه بما هو «كازينو» (قمار)، دخله الحبيب الصيد (في صورة من سيفوز) وغادر يجرّ أذيال «المرارة» رغم كمّ التصفيق الذي صحب المغادرة.

 

يأتي يوسف الشاهد في صورة «الفارس المغوار» أو هو «الشاعر الفحل» الذي سيخسر مجمل رأسماله ويعود (هو الآخر) يجرّ مرارة أكبر، ليس بذات مرارة الصيد، حين يأتي الرهان بسمعة اتحاد الشغل (صمّام الأمان في البلاد)…

 

من الصعب أو هو من المستحيل أن تكسب حكومة الشاهد أيّ جزء من رهاناتها التي أعلنتها يضمن لها «حدّا أدنى من الشعبيّة» القادرة على ابقائه في الحكم، حين سينتقل «الصراع» من بعده الأفقي بين الأحزاب إلى بعد عمودي بين «الحكم» من جهة مقابل العمق الشعبي….

ستسيل الدماء أنهارًا حينها، ويغيب الشاهد في عتمة التاريخ…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي