القصرين: سقوط في الترضيات وحربوشة التسكين…

21 يناير 2016

مجرّد أن تتحرّك «الحكومة» بُعيد التحركات الاجتماعيّة العنيفة في القصرين وتقرّ جملة من القرارات وانتداب الألاف من العاطلين، يثبت بما لا يدع للشكّ أنّنا أمام حكومة لا تعطي لمن له الحقّ، بل تتنازل لمن يعتمد العنف والقوّة.

منطق خطير وعلاقة لا تؤسّس لأيّ ديمقراطيّة، بل تنفي «فتات الديمقراطيّة» التي تمّ تأسيسها بُعيد 14 جانفي، حين صارت البلاد إلى أمرين:

أوّلا: لم يعد القانون هو الفيصل سواء على مستوى الانتداب أو التشغيل أو فتح المناظرات وغيرها من سبل القضاء على البطالة،

ثانيا: اعتماد العنف لتغيير الواقعين الاقتصادي والاجتماعي، ينحاز بالواقع السياسي من موازين قوى «الصندوق» (الانتخابي) إلى موازين العنف والمزايدة بالقوّة.

بكلّ المعايير ورغم كلّ النوايا وفوق ما هي الخطب الرنّانة، يمكن الجزم أن «عطايا» حكومة الصيد لا تتعدّى «حربوشة» [حبّة دواء] في مستوصف حكومي لمريض تستوجب حالته تدخلا في أرقى المستشفيات، وأنّ «الداء» لن يذهب بهذه «الخربوشة»، بل مجرّد «تسكين» في أقصى تقدير، لتعود «الاحتجاجات» مع هؤلاء الشباب (أو أخرين)، في القصرين (أو في مكان آخر)…

 

هي حكومة قصيرة النظر أو تنعدم لديها الرؤية (رغم خليّة الاستشراف واليقظة)، لم تتجاوز منذ نسختها الأولى تسيير (ما أمكن) من الأمر العاديّة، وكذلك تفادي «الكوارث»، دون أن ننسى «شطحات» الوزراء بحثا عن «تأصيل المجد» (الشخصي) أو «استدامة المقام» (في الوزارة)…

 

مواجهات القصرين

مواجهات القصرين

من ذلك واهم من يتخيّل أن حكومة قامت في تونس منذ 14 جوان، كانت تملك الحدّ الأدنى من «الرؤية الاستراتيجيّة» أو أي نظرة «استشرافيّة» تتعدّى منطق «الآن» وتتجاوز مجال «هنا»… حكومات «ردّ فعل» وركض خلف نقاط النار لإطفائها، وليست حكومات مشاريع وبناء…

من الافراط في القسوة، اعتبار حكومة الحبيب الصيد مسؤولة بمفردها عمّا يجري في البلاد، بل يمكن الجزم أنّ الجريمة الأساسيّة ارتكبها الطاغية بن علي على مدى 23 سنة من نظام الظلم والجبروت وتدمير البلاد وتفتيت النخب، حين لم يبرع سوى في «صياغة صورة» (جميلة) في حين أنّ ما تحت الصورة فظيع وقذر، ممّا أدّى إلى «أحداث الحوض المنجمي» التي يمكن الجزم أنّها التمهيد الأوّلي ليوم 17 ديسمبر وما تلاه، ليكون رحيل الطاغية وبقاء جسم النظام على حاله…

وسط هذا المناخ، يمكن الجزم أنّ جهات أخرى ستنتفض قريبًا من أجل مطالب أخرى، أو تحسين ما تمّ تحصيله، حين لا يتخيّل أحد أنّ هذه «العطايا» ستنقل حال هؤلاء العاطلين من «جحيم الفقر» إلى «جنّة النعيم»، إضافة إلى (وهنا المصيبة) أنّ هذه «الوظائف» تأتي «خياليّة» أو هي «شبه خياليّة»، حين لا يمكن اسقاط «وظائف» (هكذا) دون حاجة انتاجيّة، ممّا يعني أنّ هذا «التشغيل» وهذه «الوظائف» ومن ورائها هذه «الأجور» لا تعدو أن تكون (ضمن المعنى الحقيقي للكلمة) «رشوة اجتماعيّة» (لا أكثر ولا أقلّ)…

 

لا يمكن لأيّ اقتصاد يعمد (هذه) «الرشاوى» (الاجتماعيّة) أن يتقدّم فعلا وأن يرتقي إلى الحدّ الضامن للاستقرار الاجتماعي وقبل ذلك وبعده، تلبية المطالب الاجتماعيّة التي خرجت من أجلها ونادت بها جماهير 17/14، وبالتالي يمكن الجزم أنّ الحكومات المتعاقبة (منذ 14 جانفي) تتوارث «المصائب»، حين لا تفكّر أيّ حكومة أبعد من حاضرها ولا تعطي أهميّة لخطورة خطواتها على «نسبة التداين» حين انخفضت واردات الدولة وارفعت نفقاتها بصفة جنونيّة.

سواء قبل الشباب («الثائر») هذه «الرشوة» (الاجتماعيّة) أو رفضها، فالجزم قائم أنّه شباب عاجز عن وضع معادلة الوطن أوسع من مطالب فئة، مثله مثل الحكومة وكامل الطبقة السياسيّة، حين صار «الصراع» هو المحرّك الأساسي للفعل، بل «العنف أساسًا»…

 

من الأكيد وما لا يحتمل المناقشة، أنّ جهات عديدة «تلعب» وسط هذه «الاحتجاجات»، وأنّ كلّ جهة تحاول وتسعى لتوجيه الفعل في المسار الذي يخدم مصالحها، سواء جاء الأمر تصعيدًا أن تهدئة، لكن وجب الجزم باستحالة ارجاع «الاضطرابات» (مهما كانت حدّة العنف فيها) إلى (مجرّد) «شرذمة ضالّة» أو «من يصطادون في المياه العكرة» أو كذلك «مندسين» لأنّ المسألة (حين نتحرّر من عقليّة «المؤامرة») تخصّ «التربة الخصبة» لهذه التدخلات (مهما كانت الجهات المتدخلة)، وليس البقاء عند رصيف الاتهامات، بل وصم كلّ شاب يخرج للمطالبة بالشغل بأنّه «دمية» في يد هذه الجهة أو تلك…

مقاربات أمنيّة خاطئة وقراءات اجتماعيّة مغلوطة ورؤى اقتصاديّة مغشوشة، لا يمكن أن تقود (سواء جاءت هذه «الأيادي» لتلعب أو لا) سوى إلى مثل هذه الانفجارات التي سيرتفع نسقها مستقبلا ويتعاظم عنفها، لأنّ هؤلاء الشباب لا يزالون (إلى حدّ الساعة) عند المطالبة الاجتماعيّة وكذلك «العنف البسيط»، قد (ونقول قد) تدخل عديد «الأطراف» في الجهات أو على كامل البلاد، لتدخل البلاد (لا قدّر الله) في حلقة أشدّ تعقيدًا من «تحرّكات من أجل التشغيل»…

 

لا يجب أن ننسى أنّنا أمام «مافيات مسلّحة» (والكلام لمحسن مرزوق ليوميّة «الخبر» الجزائريّة)، ولا ننسى أنّنا أمام شباب عاطل عن العمل، غير منظم ولا يعمل في إطار مضبوط، ومن ثمّة يمكن الجزم أنّ أكثر من جهة «تلعب» وسط هذا الميدان، سواء لإسقاط الحكومة القائمة، أو لتدمير البنية السياسيّة الحاكمة والمجيء بشكل جديد من (الجنرال) «بن علي»، أو استدامة حال العنف والفوضى وانعدام الأمن إلى حين تحقيق مآربها.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي