بين التعليم والتربية: فقدان الأوّل وقلّة الثانية…

12 فبراير 2016

فرنسا، مثلا، عندما يمثّل الغرب أحد الأمثلة التي سبقتنا على مستوى الديمقراطي، رغم تشريع «الزواج المثلي» وارتكابها (من منظور الجهات المتدينة داخلها) عديد «الحماقات»، لا يمكن أن تسمح لأيّ فنّان لا يقدّم الصورة «المثلى» للمواطن «الأمثل» أن يتجوّل «داخل المدارس» (الحكوميّة)، ويتحوّل إلى «قدوة للتلاميذ»…

لا مزاح مع التعليم ولا مراوغة مع التربية، حين تملك فرنسا، كما مجمل الفضاء الغربي، من «الخطوط الحمراء» ما يجعل الفضاء المدرسي أبعد ما يكون عن «الأمثلة السيّئة»… بمقدور ومن الممكن أن يصل هذا «المثال السيء» إلى الأطفال عبر وسائل الإعلام، لكن ليس عبر المؤسّسة الرسميّة للتعليم العمومي….

 

في تونس بلد الثورة على الفقر والبطالة والظلم، كان المأمول أن تقوم «ثورة» (تعليميّة) تقدّس العلم وترفع من مقام المعلّم (أو الأستاذ) وتجعل التحصيل العلمي والمسيرة المعرفيّة، السبيل الأوحد أو على الأقل الأفضل والأرقى، أمام من يريد (كمثلنا جميعًا) أن يرتقي درجات السلم الاجتماعي في أقصى سرعة، وربّما الجلوس (إن استطاع) على أرفع مقام…

 

المدرسة التونسية

المدرسة التونسية

ما نلاحظه دون أدنى حاجة إلى أيّ دراسة، لأنّ الأمر باد وجليّ، لا يحتاج إلى تدليل، يكمن في تراجع مقام العلم وتراجع مكانة المعلّم، ولم يعد العلم والمعرفة ذلك السلّم الاجباري للارتقاء نحو الأفضل. التعليل بالبطالة لا يمكن أن يحوّل عقل الأطفال واليافعين والشباب إلى «آلة حاسبة» (فقط) للعلامات وما هو تقييم الامتحانات، دون البحث أو دون السعي لإدراك المستوى الحقيقي لهذا التلميذ (مهما كان مستواه)…

أزمة مجتمع وعمى طبقة سياسيّة وقصر نظر الساهرين على قطاع التعليم، عندما نرى ما آلت إليه المدارس، على مستوى القيمة الاعتباريّة أوّلا قبل الحديث (في درجة ثانية) عمّا صار إليه الفضاء المدرسي من تدهور على مستوى التجهيزات….

أزمة وعي وإدراك أوّلا، عندما لا يمكن أن نتخيّل مدارس السنوات الأولى للاستقلال أفضل تجهيزًا من الوضع الحالي للمدارس التونسيّة، لكن كان هناك «نهم معرفي» رائع ومتميّز ولم يكن المعلّم/الأستاذ (كما هو حال اليوم) في حاجة إلى «دفع» التلاميذ (بالقوّة) لمطالعة هذا الكتاب أو أداء ذاك الفرض….

 

الحالة متردية، بدأت بالتدهور منذ حكومة محمّد مزالي، عندما تحوّل التعليم إلى قطاع غير جاذب للكفاءات الأفضل، وصار التكوين المهني نصيب الراسبين وتحوّلت المدرسة إلى «مصنع للعلامات المدرسيّة» وليس ذلك «الفضاء (شبه) المقدّس»….

عمل بن علي (على خلاف بورقيبة) على جعل المدرسة أداة تدجين للنشء وجعلهم دون علم حقيقي وقدرة على التفكير العميق والإدراك العقلاني للأشياء.

دون السقوط في «نظريّة المؤامرة» لا يمكن للماكينة السياسيّة وبالنخبة التي اصطفاها بن علي، أن نأمل بروز جيل قادر على أي نمط من «التفكير الإيجابي» أي البحث عن نقاط القوّة كما نقاط الضعف، والسعي نحو الأفضل. صنع لنا بن علي التطرّف القائم على «ثنائيّة غرائزيّة» تتبعها رغبة في تدمير كلّ شيء وبناء (من الخيال) «شيء جديد»… جاءنا جيل يدرك ما يرفض ولا يعلم أو بالأحرى ما يريد، إلاّ أقليّة استطاعت بمفردها أو بفضل محيطها أن تجانب فخاخ منظومات بن علي التدميريّة….

 

جاءت الثورة «مبشرًا» (كما حسبها الجميع)، لتتحوّل إلى «نذير»، حين عجزت النخب المتعاقبة على الشأن التعليمي عن الشروع (مجرّد الشروع) في القطع مع عقليّة الإملاء والطاعة، التي يقابلها التلاميذ والطلبة (سرّا أو جهرًا) بالرفض والتمرّد….

جاء زمن تحوّل الفضاء التعليمي إلى «حلبة عنف» يتزايد، والأخطر والأنكى أنّنا صرنا نشهد مشاركة الأولياء والأساتذة، عندما صارت حالات العنف في تزايد شديد….

لم يستطع أو رفض أو عجز، من تعاقب على رأس الوزارات المهتمّة بالشأن التعليمي، عن إرساء منظومة اصلاحيّة، تهدف إلى أمرين:

أوّلا: أن التعليم بناء للشخصيّة وأن للمدرسة (بالتالي للمعلّم/الأستاذ) ذلك الدور «الأخلاقي» من زرع المثل العليا والأهداف النبيلة.

ثانيا: ليس من دور للتلميذ أن يتحوّل إلى «ماكينة حفظ»، عندما تخلصت الانسانيّة من «هاجس حفظ المعرفة»، بل وجب أن يتحوّل التلميذ إلى «قدرة عقليّة» قادرة على كسب المعرفة أوّلا، وثانيا تحليل هذه المعرفة، وثالثًا (وهذا الأهمّ) تطويع المعارف جميعها لنفع العباد والبلاد وكذلك الانسانيّة (إن استطاع)…

 

زيارة فنّان اشتهر بالخروج عن القواعد الأخلاقيّة وتمجيد الخروج عن القواعد الدراسيّة، بل والسخرية منها، إلى فضاء مدرسي لا يمكن أن تقدّم «إضافة» عندما يحدثك كل صاحب «مشروع» عن «الإضافة»…. الشهرة بمفردها، لا يمكن أن تحوّل هذا «الشهير» إلى قدوة، عندما تقدّم وسائل الإعلام وترفع من مقام من هبّ ودبّ…

 

رهانات التعليم أخطر من أيّ رهانات أخرى، إنّها تخصّ الإنسان أو بالأحرى «المعرفة» كما «الوعي» فيه، ليكون التحكّم في هذين الأمر أيسر وأسهل، بل أقلّ كلفة، من السيطرة على الشعب بالحديد والنار.

لا يمكن الحديث هم ثورة أصلا، دون «ثورة قطاع التعليم». ثورة تتجاوز بالأستاذ الدرجة المطلبيّة الشخصيّة التي لا يمكن نكرانها، بل وجب أن يتحوّل المعلّم/الأستاذ أو بالأحرى أن يعود «صاحب رسالة» ومن ثمّة «رافع مشعل» العلم في كهوف الجهل الذي بدأ يستشري في البلاد….


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي