دولة الجندوبي بين النهضة وحزب التحرير: انفراط العقد وإتلاف المعقود…

31 مايو 2016

دون أن نجهد أنفسنا في المشاهدة ودون أن نبالغ في البحث، يكون اليقين لدى المتابع العادي، أنّ حكومة «الصيد» أو هي دولة «الباجي» تعامل «حزب التحرير» (الحاصل على التأشيرة القانونيّة) كما كان نظام «بن علي» يعامل «الحزب الديمقراطي التقدّمي» (الحاصل حينها على التأشيرة القانونيّة): اعتراف قانوني لا لُبس فيه ومعاملة في الواقع أقرب إلى العداوة الظاهرة والرفض المباشر.

الأزمة حينها (زمن بن علي) والأزمة (راهنًا)، تنحصر إعلاميّا وكذلك سياسيّا لدى «الدولة الرسميّة» ومن خلال «مفاعيلها الإعلاميّة» في شيطنة هذا الحزب أو ذاك، ليتدنّى الواقع أو هي تنحصر العلاقة في أبعاد «عاطفيّة» أقرب إلى «المزاج الأيديولوجي»، من دولة (تحترم نفسها)، تطبّق القانون في عدالة قاطعة وصرامة لا تستثني أحدا…

 

كما لم يكن «نظام بن علي» يملك جرأة إغلاق «حزب نجيب الشابي» (كما يسمّى حينها)، تعجز حكومة «الصيد» ودولة «الباجي» عن إغلاق «حزب التحرير» (راهنًا). تاريخ يعيد نفسه بين صورتين متناقضتين:

أوّلا: غياب الجرأة لدى بن علي، وخوفه من «المضاعفات الدوليّة» حين يعلم أنّ الغرب عمومًا وأروبا على وجه الخصوص تعشق إذلاله، بل هذا وذاك لا يفوّت الفرصة لذلك.

ثانيا: غياب الجرأة لدى حكومة الصيد ودولة الباجي، لخوف هذا وخشية ذاك، من أن تستغل جهات أخرى (النهضة على وجه الخصوص) ثمار هذا «التصرّف» ومن ثمّة يتحوّل كلّ من الصيد والباجي إلى «حمّال»، إن لم يكن ذلك المعنى «البذيء» المتداول في المجتمع التونسي، بخصوص مثل هذا التصرّف.

 

يذكر التاريخ كما يؤكد الواقع أوجه التشابه في المعاملة. بل يمكن الجزم أنّنا أمام حالات «نسخ ـ لصق» لا غير، ليغيب السؤال عن «عجز الدولة» «الماسكة» (افتراضيّا) للمال والسلطة والسلاح، ويحلّ مكانه «تقييمات عاطفيّة» وكذلك «قراءات أيديولوجيّة» أقرب إلى «تنابز الجهلة»…

 

هذه الحالة وشبيهتها في التاريخ، لا تأتي منعزلة، بل هي سياق تاريخيّ ومعضلة بكاملها، استعملها بورقيبة وعمل من خلالها، وأمعن فيها بن علي الذي لم يعرف غيرها، وها هي «دولة الثورة» وكذلك «حكومة الانتقال الديمقراطي» تواصل على نفس «منهج الأوّلين» في النزول من «مصاف القانون الواضح» إلى درك «المعاملة البوليسية المقيتة»….

المعادلة بسيطة وسهلة وعلى قدر كبير من الوضوح ولا تأتي سوى من خلال خيار بين خيارين:

أوّلا: هذا الحزب أو ذاك، «قانونيّ» ومن حقّه التمتّع بما تتمتّع به الأحزاب الأخرى، من باب احترام «القانون» والتأسيس بل ترسيخ (ما نقول أنّها) «الممارسة الديمقراطيّة»،

ثانيا: هذا الحزب أو ذاك، مخالف للقانون ومن ثمّة يكون على الدولة ومن واجب الحكومة، الذهاب في الاجراءات القانونيّة سواء من أجل أغلاقه أو مطالبته بتعديل مواقفه وتصويب تصرفاته.

 

منزلة بين المنزلتين، تهدّد الدولة، بل تتهدّد وجودها، ومن ثمّة (وهذا الخطير جدّا) ينتقص من (ما يسمّى) «هيبة الدولة» بل يدمّرها تدميرًا، لأنّه يعرض على القاصي والداني والقريب قبل البعيد، صورة بين حدّين:

أوّلا: أنّ الدولة (المؤتمنة الوحيدة على تطبيق القانون) تقبل أن تنجرّ إلى «منطقة يغيب عنها القانون»، أي بعبارة أخرى، أنّها غير واعية بوجودها أو غير مقتنعة بوظيفتها،

ثانيا: أنّ «الممارسة الديمقراطيّة» (المفترضة وكما يتغنّى بها شعراء السياسة) عاجزة أو هي رافضة أن تتمّ على «أرضها» كلّ «التفاعلات» الممكنة أو المقبلة، وبالتالي احتاج «الواقع السياسي» إلى «منطقة سريّة» تكون وسيطة بين «القانون» (الظاهر) مقابل «المصالح» (المخفيّة)….

 

خطورة هذا المنطق الانفصامي، بل المريض والمعتلّ، أنّه تجاوز «علاقة الدولة» بخصومها على أرض الواقع والوجود السياسي، حين يقدّم «حزب التحرير» طرحا يناقض وينفي «التوافق الحكومي»، تجاوز إلى «داخل الحكومة»، أيّ صار الداء وانتقل السرطان (عافاكم الله) إلى داخل «أهل البيت»، حين يحذّر كمال الجندوبي (الوزير في حكومة «التوافق الرباعي»)، بل يصرخ وينتفض منذرًا بما «صارت إليه النهضة من تمدّد داخل الدولة»… علمًا (لمن لا يعلم) أنّ «النهضة» شريك في حكومة التوافق الرباعي (هذا)…

HTالكلام في ذاته متداول، بل مقبول ومعقول. مقبول من حمه الهمّامي ومعقول من أحمد الصدّيق، حين تقف «الجبهة الشعبيّة» موقف «النقيض» من «المشروع الحكومي» برمّته. ذلك حقّها، بل دورها، ومهما بالغت (بحسب البعض) على مستوى إثارة المواضيع أو رفع الصوت، إلاّ أنّها (أي الجبهة بشخوصها) تؤدّي الدور الديمقراطي المطلوب بل الضروري إن لم نقل اللازم. لكن أن ينطق بمثل هذه الكلمات «وزير» لم يكلّف نفسه عناء «الاستقالة» (أوّلا) وكذلك «التنصّل» من هذه الحكومة (ثانيا)، فالأمر لا يعدو أن يكون أشبه بذلك الذي يحذّر العامّة ويقيم الدنيا معلنًا أنّ «زوجته» أو هي «أخته» عاهر تمارس الدعارة، وهو يطالب «الناس» بالتصدي لهذه والوقوف ضدّ تلك…

 

أزمة أخلاقيّة بل هي أزمة ضمير وحتّى أزمة شرف، سواء تعلّق الأمر بما مارسه بن علي تجاه «الحزب الديمقراطي التقدّمي» أو حكومة الصيد ودولة الباجي تجاه «حزب التحرير» أو ما يقوله (معالي الوزير) كما الجندوبي عن «حركة النهضة»… هذه الحركة التي تشارك في الحكومة وتتحمّل (أخلاقيّا على الأقلّ) تبعات التصرفات (غير المنطقيّة) تجاه «حزب التحرير»…

في الحالات الثلاث، هناك استبطان للعجز وعدم القدرة عن الفعل، وسعي للتحوّل من «مجال الدولة» (القويّة) إلى «مستنقع المخاتلة» (غير الأخلاقيّة)، التي ليس فقط تُسقط الدولة من علياء هي تستفرد به، بل تجعلها أشبه (وفق المثل التونسي) بمجرّدة «كرة بين الذكور»….

 

الوضع أخطر بكثير من زمن بن علي، الذي كان يعلم أنّه طاغية وكنّا نعلم أنّه طاغية ونعامله كذلك وكان (من باب الأمانة) يعاملنا على أنّه طاغية. راهنًا نعيش «الثورة» ونتنفّس «الديمقراطيّة» دون أن نرى ثمارًا أخرى غير «ثمار الطغيان»، ممّا يعني أنّنا (والعياذ بالله) أمام «حمل كاذب» أو هي (والعياذ بالله ثانية) «ديمقراطيّة» معدّلة جينيا، أي (والعياذ بالله ثالثة) صناعة «فالصو» (على لغة أهل تونس) [أيّ سيئة الصنع]، ممّا يدفع أو دفع «البعض» (ربّما والعياذ بالله رابعًا) إلى «الاشتياق» إلى «الطغيان» (على أصوله)…


361 تعليقات

  1. محمد بن يونس

    تحليل رائع وجميل ومنطقي ونريد المزيد من أفكارك النيرة وبالتوفيق إن شاء الله

  2. بوزيد الهلالي

    فقط تصحيح لغوي لا نقول شخوص “جمع شخص” بل نقول .اشخاص

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي