روسية ـ تركية ـ روسية: فقه «الضرورة» وفتاوى «المحرّمات»….

30 يونيو 2016

بين «اعتذار/أسف» أردوغان لبوتين، بخصوص الطائرة الروسيّة التي أسقطتها تركية، والعمليّة الإرهابيّة التي شهدها مطار مدينة إستنبول، انبرى «دراويش» الفايسبوك والانترنت عمومًا، سواء منهم «الرعاع» الجاهلين بأبجديات القراءة السياسيّة، أو حتّى بعض «العارفين»، يرون بل يقدّمون «المشهد» في صورة صراع «ثورين» في قمّة الفحولة، لن يتركان بعضهما البعض سوى حين يسقط أحدهما ميّتا…

هذه الصورة «الملحميّة» سواء من باب التأكيد والجزم، أو النفي والرفض، صارت هي الغالبة بل المسيطرة، إن لم نقل الأوحد، بين «نقيضين» ينفيان مكانة بعضهما، لكن (وهنا الخطورة)، يتفقان في «شكل الخطاب» واساسًا «أدوات صياغته»…

 

ها هو بوتين قبل الاعتذار، بل «ركب» عليه، ليس من باب «غزو تركية» (كما يهدّد البعض)، بل (وهنا الأهميّة) الإعلان عن «طيّ الصفحة» والشروع في «صفحة جديدة»، وكذلك لم تتهم تركية إثر العمليّة الإرهابيّة أعداءها من «حزب العمّال الكردستاني» (الحليف الطبيعي لدمشق)، بل ألصقت الجريمة بهذا «العدوّ المشترك»، أيّ (ما يسمّى) «داعش»…

يتأكد للقارئ البسيط كما المتابع الحصيف، أنّ منطق «الحسم الفوري والشامل» وما يلزم ويتبع أو يؤسّس له من «معارك شاملة»، تنتهي (أسوة بأفلام «الأكشن») بمصرع أحد البطلين، تأتي ليس فقط صورة كاريكاتوريّة، بل «مريضة» إن لم تكن حال من «الانفصام»…

 

روسية تفكّر بمعنى «المصلحة» الاستراتيجيّة، ومن ثمّة هي أبعد ما يكون عن «العنتريات» التي قد تجد لها مكانًا في مسلسل «باب الحارة»، وتركية عرفت (متأخرة) أنّها «كانت تُكابر»، وعليها «تعديل» مسار سياستها، من «المكابرة» والانطلاق دون فرامل، إلى «قراءات» أكثر واقعيّة، بل مناقضة لما كانت تسلك…

بين الاثنين، لا تزال دمشق تبحث عن حسم «معركة حلب» وسط متغيرات استراتيجيّة:

أوّلا: مجاهرة الأمريكان والغرب عمومًا بدعم «قوّات سورية الديمقراطيّة»، بل العمل جهرًا وعلانيّة، على مسابقة النظام في جعل هذا التنظيم «يحتلّ» أوسع رقعة ممكنة، تكون «الأرضية» (الممكنة) لدولة كرديّة، تأتي «شوكة» في عين الدول المحيطة، سواء تركية وسورية أو العراق وإيران.

ثانيا: عملية استنبول كائن من كان (حقّا) وراءها، قطعت «الحبل السرّي» بين النظام التركي و(ما يسمّى) «داعش»، وفتحت الباب أمام «اشتراك» (وظيفي) بين سورية وتركية في محاربة هذا التنظيم الارهابي…

ثالثًا: التطبيع التركي مع العدوّ الصهيوني، نزل في حلق أنقرة أمرّ من العلقم، بل جاء «إهانة» بأتمّ معنى الكلمة أمام «السقف العالي» التي رفعته تركية على لسان رئيسها الحالي رجب الطيب أردوغان، ومن ثمّة يكون على هذه القيادة أن تعوّض (هذه) «الخسارة» (الفادحة) من خلال الاقتراب من موسكو وتخفيض (وهج) النار مع العدوّ السوري…

SRTهذه «المتغيّرات» الاستراتيجيّة جاءت أقرب إلى «زلزال» جعلت عقل «العدالة والتنمية» ينسى أو يتجاوز (مؤقتا طبعا) «الغريزة الاخوانيّة» إلى «غريزة البقاء»، ومن ثمّة تركية (بقيادة أردوغان) مستعدّة أن «تدفع» ما يلزم وما هو ضروري، لتعبر «العاصفة» أو هو «الإعصار»، إن لم نقل «التسونامي»…

 

نفس المنطق والقراءة ذاتها، تحكم كلّ من العقل السوري والروسي: رغبة في استغلال «الارتخاء» التركي، ليس «للانتقام» (الغريزي)، بل (وهنا المهمّ) لعبور «عاصفة» وتجاوز «إعصار» إن لم نقل «تسونامي»:

أوّلا: يلاحظ المراقب أنّ الرئيس الروسي دفع بالتطبيع مع تركية نحو «الجانب الاقتصادي»، أيّ (بصريح العبارة) كسر الحظر الذي تفرضه أوروبا على بلاده، ومن ثمّة اخراج تركية من هذا «الحلف» بدءا بالحظر، وربّما (نقول ربّما) «الحلف الأطلسي» (يومًا ما)، الذي يمثل الهاجس الأكبر، أو هو الكابوس (الحقيقي) الذي يؤرق الرئيس الروسي.

ثانيا: النظام السوري، سوف يستغل هذا «الإذعان» ليكون عونًا له على «جبهة حلب»، ودليل ذلك الخبر الذي أدرجته «قناة الميادين» (القريبة من موسكو ومن دمشق) عن تمرير صواريخ حراريّة مضادّة للطائرات إلى الجماعات المسلحة في حلب، لن تعمل (وفق هذه القناة) سوى بأمر من أنقرة… ممّا يعني أنّ تركية تريد أن يفهم الجميع: أنّها وإن انكسرت قليلا، إلاّ أنّها لم تفقد لياقتها، وكذلك أنّها على استعداد للمقايضة، أيّ مقايضة «معركة حلب» وإن كان من باب «الحياد الإيجابي» لفائدة دمشق/موسكو….

هي أشبه ما يكون أو هي فعلا، جلسة «بوكر» جماعيّة، يعلم البعضُ بعضَ ما للأخرين من أوراق، لكنّ الكلّ يسعى لإيهام الكلّ، أنّ أوراقه الأفضل.

 

كذلك لا أحد (روسية ـ تركية ـ سورية) يحتاج أو هو مستعد لحركة تقلب الطاولة وتفسد هذا «المنحى التوافقي»، وإن كان في بدايته، ممّا يعني (ضرورة ولزامًا) أنّ الأطراف الثلاث في حاجة استراتيجيّة لتوسيع «مساحة التوافق» لكن لا أحد من الثلاث، يريد أن يبدو في صورة الضعيف المحتاج…

 

الثلاث، رغم سيل الدماء بين أنقرة ودمشق، وكذلك العداوة بين موسكو وأنقرة، يحسنون، بل يتقنون لعبة «الاكتفاء بالمشترك» أمام «تأجيل الاختلاف»، لذلك من المنتظر أن يظهر شكل من «التعاون» (الجدّي والفاعل) في محاربة «العدوّ» المشترك، أيّ (ما يسمّى) «داعش»، سواء على مستوى تبادل المعلومات بين موسكو وأنقرة، أو (وهنا السؤال) «التعاون على الأرض»، أي ترجمة «تبادل المنافع» على «جبهة حلب» التي يمكن الجزم أنّ تركية وسورية وكذلك روسية، يمتلكون «مجتمعين» الأغلبيّة المطلقة من «أوراق اللعبة» فيها…

لذلك جاء «إعلان المقايضة» التركي، عبر «لعبة الصواريخ الحراريّة» ليعلن بدء «المراهنة»، مراهنة، تتقن موسكو خيوطها، وتملك دمشق قدرة قراءتها كما يجب…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي