مسرحيّة «تجرّأ.tn»: نص متوتّر، أداء متوثّب وإخراج مقتدر…

20 يناير 2018

لا يمكن لأيّ عمل فرجوي (المقصود المسرح والسينما) أن يتجاوز وجع اللحظة والخوف الكامن في النفوس من قادم الأيّام، سواء جاء «خطاب العمل» مركزّا أو بالأحرى مرتكزًا على «تشريح الخيبة/الخيبات»، أو هو «تحديد المسؤوليّة/المسؤوليات»، ليكون دائمًا ذلك «الأمل» وإن غلب عليه طابع التشاؤم بعدد المرارات.

_42C7075ضمن هذا النسق جاءت مسرحيّة «تجرّا.tn»، أقرب إلى الاسترسال دون توقّف، مثل ما يرى النائم من «كابوس/حلم»، غلب فيه سيلان المعنى وتدفّق النصّ، ما هي التأثيرات (المفترضة) لهذا «الهذيان»، على أداء الممثل، دون أن ننسى معالجة المخرج، ومن ثمّة جاءت «اللغة المسرحيّة» (أيّ ما يصل حواس المتلقّي)، قائمة على خدمة النصّ، وإن كان الممثّل الأوحد أعطى من ذاته قدرات كبيرة وكذلك الإخراج القائم على حفر المسار أو هي قناة يسير فيها الممثّل ويسري المنطق في أخاديده.

 

_42C7045الكاتب أو بالأحرى صاحب النصّ نور الدين الهمّامي، جاء بصور أقرب إلى ومضات تشخيصيّة تتكّل على «غرابة» زاوية الرؤية (الذاتيّة جدّا، والموغلة في التقدير الأديولوجي)، من البحث عن «صورة جميلة» بمحتواها، أو تلك التي تقدّم «لذّة»… نص تشريحي بما هي مشاهدات «مواطن» (شديد التسييس) أو شهادات مثقّف (لا يمكن نزع معطف الأيديولوجيا عنه)، يقف من «الحالة السياسيّة» موقف «الحاكم/القاضي» أيّ ذلك المالك والمستحوذ دون غيره وفي اقصاء لا يقبل النقاش، لما هو «رأسمال الرمزي» لما هي «الثورة» ومن بعدها «الأداء السياسي» للطبقة الحاكمة أو بالأحرى تلك ذات المرجعيّة الدينيّة أو هي حاملة لهذه الصفة، دون تفويت الفرصة للحديث في إسهاب وفي عنف لفظي قارب أو هو لامس المسكوت عنه «أخلاقيا» حين تعمّد ادراج بعض الألفاظ الصادمة أو الحركات التي تؤدّي المعاني ذاتها.

هو نصّ حمّال أيديولوجا وأقرب إلى الموقف والمحاكمة من «النصّ الجميل بذاته». يقف المتفرّج أمامه حيال «استرسال» أقرب إلى «القذف» الذي نزل أو تأسّس دون وعي عقلاني من صاحبه، وفي الآن ذاته مادة أوّلية برع الممثّل «ريان القيرواني» في استغلالها، حين بالغ (ضمن المعنى المحمود والجميل) في تلبّس الشخوص العشرة، والسعي لتقديم صور «كاريكاتوريّة» ضمن المعنى الإيطالي اللغوي للكلمة، أيّ «التثقيل». تثقيل جاء بتأكيد نطق مبالغ فيه عمدًا وبفعل حركات جعلتها الإضاءة أقرب إلى تلك الصور الذي يراها النائم في حلمه.

_42C7062تثقيل الكاتب (صاحب النصّ) مبالغ فيه على مستوى استرسال السرد، ممّا فوّت فرصة الاشتغال عموديّا، أي الحفر في المعاني عوض الاستغاضة بالقذف (الأفقي) الباحث عن الصدمة لدى المتلقّي، صدمة انتزعت القهقهات غالبًا، لغرابة المعنى أو تعمّد الكاتب تعرية «المسكوت عنه» اجتماعيّا/سياسيّا/أخلاقيا ومن ثمّة دينيّا، ممّا جعل الكاتب يؤسّس (فوق الركح، وهذا حقّه) إلى منظومته الانسانيّة، الرافضة أو هي في قطيعة مع الطقس السياسي/الديني القائم.

المخرج لزهر الفرحاني، تعامل مع النصّ في سلاسة ومع الممثّل في عنف أو هي الرغبة لديه، في جعل الثاني يلبس ويتلبّس الأوّل، بحثًا عن جماليتين: جمالية اللحظة الباحثة عن الصدمة/الضحكة وجمالية تروق للعين، أي القدرة على تسطير الأضواء وتنسيق الألوان، في علاقة بالممثل حامل الألوان ومركز الأضواء، في تجاوز أو هو التغاضي عمّا ستكون عليه «الصورة الذهنيّة» للعمل أبعد من عقول هذا «الثالوث الغاضب»…

_42C7084يطرح العمل الماثل أمام المتفرّج مسألة «الغرض» من العمل الفرجوي، أو هي جملة ومجمل «التوازنات» بين نرجسيّة الذات المبدعة و«خطر» الشعور بالوصاية أو هي الأبويّة تجاه المتلقّي، وأيضًا تلك «اللذّة»، بمعنى لذةّ الأذن والعين ومن ثمّة متعة الدماغ الذي تنقّل (داخل الجسد طبعا) إلى قاعة العرض، علّه يصيب ما جاء من أجله أو هو ما يأمل في فرجته. دون أن ننسى هاجس الفنّان في الإرتقاء إلى أعلى رتبة في المجتمع، أيّ «صاحب المعرفة» دون غيره وأيضًا «محتكر الحكمة» دون الأخرين.

في خضم هذه التوازنات المفترضة أو هي القائمة افتراضا حالة بحالة، أو كلّ حالة تختلف عن الحالات الأخرى، اختار الثالوث بدرجات متفاوتة كلّ جماليته: صاحب النصّ فضّل «جمالية مرآة ذاته»، في حين أراد الممثل أن ينتهز النصّ الصادم/المضحك ليستدرّ إعجابا طلبه وطالب به، فجاد عليه المتفرجون بالتصفيق والقهقهات وحتّى الوقوف أثناء العرض حين أشعل الأضواء وأمر الجميع بالوقوف والتصفيق.

_42C7107المخرج كان الحلقة الأخيرة، وجاء أقرب إلى السدّ المتعامل مع «هذيان النصّ» وكذلك «جموح الممثل»، بمعنى تطويع النصّ الموغل في الأديولوجيّة وجعله قميصًا يسهل على الممثّل إرتداءه. مهمّة حدّدتها رغبة أو هي خيارات المخرج على مستويين: أولهما تطويع الصدمة/القهقهة سلاحًا، ينازل به ما هو قائم ضمن «السوق المسرحيّة» من أعمال المونودراما تتأسّس هي الأخرى على الصدمة/القهقهة، وثانيا، استغلال «القيمة المضافة» (بالمعنى الايديولوجي) لتحقيق التفوّق على من يحترفون الإضحاك والترفيه، دون العمق الأيديولوجي (الفائض) من مسرحيّة أشرف على اخرجها…

 

يبقى السؤال الأوسع عند من يشاهد مثل هذه الأعمال، عن «الغائيّة» (بالمعنى المتعدّد) التي تقف وراء النصّ، وكذلك أين يقع «مركز الثقل» بمعنى التوازن والارتكاز. ضمن هذا العمل لم نر غائيّة جامعة بين الثالوث سوى العمل المادي في ذاته، ولم يفوّت أي منهم «نقطة ارتكازه» بحثا عن «نقطة ارتكاز» (مفترضة). لا عيب في ذلك لذاته، بل عديد الأعمال الكبرى ضمن تاريخ المسرح قامت (ماديا وليس المقصود العمل بذاته) على «الصدام» بين الثالوث، لكن السؤال يكمن ويكون على مستوى ما يحمله «العقل» عند مغادرة القاعة، أكثر من «الصدمة/القهقهة»..

_42C7118يستحقّ هذا العمل مزيدًا من العمل، أسوة بالأعمال المسرحيّة الكبرى، التي تتطوّر طوال حياتها، وكذلك يستحقّ الكاتب التقدير لقدرته على التقاط النقاط المثيرة في المجتمع ومن ثمّة العمل على «تثقيلها»، ليجعل منها «صورا كاريكاتوريّة» صادمة/مضحكة. الممثّل أيضًا الذي يقف لأوّل مرّة منفردا على الخشبة بالغ (ضمن المعنى الجميل) في تثقيل الشخوص ممّا جعل الصورة الكاريكاتوريّة رغم حزن بعض المشاهد أحيانًا، تطغى على الناظرين. المخرج محترف التمثيل، الذي قفز للمرّة الأولى من تحت الأضواء إلى اللعب بها واللعب بالممثلين (ممثل واحد ضمن هذا العمل)، بالغ هو الآخر في صناعة التفاصيل التي جعلت من العين ترى جماليّة منفردة، لولا النصّ الذي طغى أحيانًا على الأدوات المسرحيّة الأخرى..


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي