من سيدي بوزيد إلى باريس: ارهاب على درجات؟؟؟؟

14 نوفمبر 2015

ابتدع رئيس التحرير السابق لشهريّة «لوموند ديبلوماتيك» Le Monde Diplomatique كلود جوليان Claude Julien نظريّة «الميّت ـ الكيلومتري» Le mort-kilométrique أيّ عدد الموتى في أي حرب أو حادثة أو عمليّة ارهابيّة، مع اعتبار المسافة الفاصلة عن هذا موقع الموت.

مفهوم «المسافة الفاصلة» يجمع المسافة في بعدها الجغرافي وكذلك العلاقات الانسانيّة والأبعاد التاريخيّة، وحتّى المسائل ذات البعد الشخصي.

هذا المفهوم وضعه هذا الرجل التي تتجاوز قامته الفكريّة الصحافة والنشر إلى الفكر وحتّى التنظير وتحليل الظواهر، للتأكيد على أنّ الاهتمام بظاهرة «الموت العنيف» ليس ذاته لدى كلّ البشر أمام كلّ الحالات. فسرّ هذا الصحفي المسألة من خلال تحليل العلاقة أوّلا مع موقع الحادثة وطبيعة الرابط كذلك مع المجموعة البشريّة المعنيّة بالموت، لكنّه (وهنا الأهميّة) تجاوز مفهوم أو جدليّة «التلقّي» (أو من يطالع الخبر) إلى «منطق صياغة الخبر».

أكّد كلود جوليان أنّنا لسنا سواسية أمام الموت، أو بالأحرى لا ينظر إلينا الإعلام بالشكل ذاته عند مغادرة هذه الدنيا الفانية. من المعقول ذلك، حين لا يمكن أن نتخيّل أو نطالب الجميع بأن يهتمّ بموت الجميع بالدرجة ذاتها، حين وجب الاعتراف أنّ العرب والمسلمين يعطون درجة «عاطفيّة» أرقى للشهداء الفلسطينيين أكثر من دول بعيدة جغرافيا وغير متواصلة معهم حضاريّا…

المسألة محسومة على اعتبارها شكلا «طبيعيا» من التعاطي البشري، سواء بين البلدان أو حتّى داخل البلد ذاته. من شهد منّا حادث مرور بأمّ عينيه وشاهد الموتى ونقل الجثث ومعالجة الجرحى، يكون «أقرب» إلى الحادثة، حين يروي المسألة إلى من يقابلهم أو هو على تواصل معهم على مواقع التواصل الاجتماعي، أكثر بكثير ممّن قرأ عن الحادثة سطرا أو سطورا في موقع اعلامي.

المسألة الأخلاقيّة في علاقة بالموت أو بالإرهاب على اعتباره أبشع حالات الموت وأشدّها ألما، تكمن في السؤال عن «الحدّ الأدنى من الاعتبار» لمن مات أينما كان؟ أيّ، أنّنا لا يمكن أن نتجاهل تمامًا ميّتا في هذا البلد ونقيم الدنيا لمن مات في بلد أخر.

من حقّ فرنسا (النظام والدولة والشعب) أن تقيم الدنيا ولا تقعدها أمام هذه «المذابح الارهابيّة» ولا أحد يملك القدرة أو الحقّ أو شرعية السؤال ومساءلة أيّ كان عن درجة الغضب ومدى الاستنفار الذي تمّ. إنّها «غريزة الحياة» في أبسط أشكالها. قد تختلف من بلد إلى أخر بحكم الثقافة وطبيعة النظام وشكل المجتمع وحدّة هذه العمليات الارهابيّة، لكنّها مشروعة بل فعل طبيعي لا يمكن أن نتعجّب منه.

سيدي بوزيد- باريس

سيدي بوزيد- باريس

لكنّ الدول عادة بحكم طبيعتها تأتي شكلا أرقى (على مستوى الرؤية والتفكير والمعالجة والقرار والتنفيذ) من الفرد، لأنّ الدولة كائن «مشترك» بما يعني تقاسم الأدوار وفق الاختصاصات أوّلا، وثانيا (والأهمّ) كل مسؤول في هذه الدولة (أو تلك) يكمل الأخر. ممّا يخفّض من نسبة الخطأ ويرفع (افتراضا) من قيمة العمل السياسي (ضمن المعنى الأوسع للكلمة)…

ما جدّ في باريس، رغم أنهار الدماء وحجم الفاجعة وعمق الألم وما خلّف من غضب مفهوم ومعقول ومبرّر، ليس الفعلة الأولى من نوعها على مستوى البشريّة جمعاء. شعوب أخرى عرفت في مواعيد سابقة، الارهاب وعانت منه، بل لا تزال تعاني منه ليلا نهارًا، لذلك علينا أن نتجاوز الصدمة الأولى (مهما كان البلد) لنتعامل بشكل انساني أرقى من الارهاب، مهما كان الإرهاب.

راعي سيدي بوزيد، الذي تمّ قطع رأسه وإرساله في كيس إلى أهله، ليس أرقى أو أقّل قيمة من مجمل ضحايا الارهاب في باريس أو غيرها في العالم، على مدى أنهار الدماء التي أسالها الارهاب في مسيرته المظلمة.

أكيد ولا يقبل الجدل، أنّ الإعلام الفرنسي لن يضع هذا الراعي الطفل في مرتبة ضحايا العمليات الارهابيّة التي شهدتها باريس، ومن الأكيد أنّ الشعب الفرنسي في أغلبيته الساحقة لا يملك علمًا بقطع رأس هذا الراعي الطفل أصلا، لكن مطلوب من أهل هذه الضحيّة، والأهل هنا دائرة تبدأ بالبلد (أي تونس) وتنتهي عند كلّ دوائر الانتماء الممكنة والمحتملة، أن يعطوا لهذه الضحيّة ما هي أهل له.

لسنا أمام لعبة عناد بين الشعوب أو مكابرة بين البلدان، أو مزايدة أمام الإرهاب، بل (وهنا الحقيقة) وجب أن نعترف أنّ آفة الارهاب الأولى النسيان، أيّ يصير «جزءا» من حياتنا اليوميّة، نتداول أخباره بين النشرة الجويّة وأخبار الرياضة، أو هو حزن لحظة لنقهقه إثر ذلك.

كذلك (وهذا خطير أيضًا) لا تأتي القيمة الاعتباريّة لهذه الضحيّة أو تلك، في هويتها أو جنسيتها أو عدد الضحايا أو هويّة الإرهاب، بل «كلّ الضحايا سواسية»، أو هكذا وجب أن يكونوا (من منطق الانسانيّة والواجب، قبل الأخلاق)…

شاهدنا ونشاهد وسنشاهد حجم الاستنفار الفرنسي، الذي خلفته هذه العمليات الارهابيّة في قلب عاصمة الأنوار باريس. كلّ حسب اختصاصه وكلّ من موقعه، والجميع بقدر الطاقة تجنّدوا وسارعوا لنجدة الجرحى ونقل الضحايا، لكن في تونس شاهدنا بخصوص هذا الراعي لامبالاة كأنّه فقد قيمته الانسانيّة….

وجب الاعتراف أنّ «الخيار الأمني المطلق» (أي صفر عمليات ارهابيّة) أمر لا يمكن لأيّ سلطة (سياسيّة أو أمنيّة) أن تعد به، ولا يمكن (في المقابل) لأيّ عاقل أن يصدّقه، يبقى العمل على درجات هي أقرب إلى قوس قزح، بداء بالأسرة التي وجب ألاّ تجعل من «العنف» شكل التعامل الأوحد أو حتّى الطاغي، مرورًا بالمدرسة التي وجب أن تجعل الفكر هو الأصل وليس الحفظ والتقليد، وصولا إلى المجتمع الذي عليه أن يتفادى الاقصاء ويضمن التساوي في الفرص وأساسًا حفظ كرامة الفرد والمجموعة. دون أن ننسى تمكين الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة وكلّ الجهات العاملة ضدّ جميع أشكال الارهاب، من أفضل الأدوات لذلك، لأنّ أرقى الديمقراطيات تملك أرقى المنظومات الأمنيّة، على عكس الدول المتخلفة أو التي غادرت حديثا الدكتاتوريّة، أين لا تزال قوّة الشرطة والبوليس تخيف وترعب.


25 تعليقات

    1. تعقيبات: emu ugg boots sale

    2. تعقيبات: cheap Roberto Cavalli

    3. تعقيبات: cheap Sergio Rossi shoes

    4. تعقيبات: prada for sale

    5. تعقيبات: cheap marmot jackets

    error: !!!تنبيه: المحتوى محمي