أبعد من زياد الهاني… أعمق من «دار الصباح»… أخطر من «التعاطي الإعلامي»….

21 يونيو 2023

من مصائب قطاع الصحافة والإعلام أن صرنا مثل «أولاد الحجلة» لا نفكّر في خطر الكواسر سوى حين يلتقط أحدنا… بخلاف ذلك لا تفكير البتّة لإقامة منظومة دفاع فعليّة وفاعلة تجعل الصحفي بمنأى أو هو مدرك لمخاطر عمليات الإيقاف.

الأخطر من ذلك أن تحوّل الأمر «فرض الكفاية» عند إيقاف كلّ صحفي… جملة من الطقوس الواجب تأديتها بطريقة شبه ميكانيكيّة، أقلّها رتبة ترديد جملة «كلّ الدعم والمساعدة» في شكل تعليق بشأن خبر الإيقاف على حساب الفايسبوك، وأعلى من ذلك مرتبة نشر صورة المعني بالأمر، نهاية بوضع صورة الموقوف عوض صورة الشخص المساند.

هذه الطقوس التي يأتيها هذا عن قناعة وأخر عن تقيّة وثالث من باب تسجيل النقاط في «المرمى المنافس» حين يتقرّر الدعم من أساسه بناء على هويّة الموقف ولون السلطة الحاكمة، بمعنى أنّ الوقوف إلى جانب الموقوف يختلف زمن «العشريّة متعدّدة الألوان» عمّا هو عليه زمن حكم قيس سعيّد.

المصيبة أنّنا صرنا نكتفي بهذه الطقوس على اعتبارها أضعف الأيمان، في حين تبقى عائلة الموقوف وأقاربه (الذين عادة هم من خارج القطاع) أشدّ المتابعين لمجرى عمليّة الإيقاف وتبعاتها…

نحن قوم نشتغل على الخبر/الصورة ومن لوثة المهنة أن صار إيقاف أحدنا مجرّد خبر/صورة، دائما وفق قاعدة لا تتزحزح عن مدى تطابق أو تقاطع خبر الإيقاف مع «الخطّ التحريري»….

 

بالمفهوم المهني والأخلاقي، وجب الانطلاق من ثابتة الوقوف إلى جانب أيّ منّا يتعرّض للإيقاف، لأنّ هذا الوقوف يمثّل استراتيجيا وقوفا (مؤجلا) مع الذات حين يكون الإيقاف، لا أن يكون أحدنا من المعرضين عن أيّ مساندة، وتتحرّك فيه النخوة ويطالب صحافة العالم بالوقوف معه لمجرّد انتزاع رخصة السياقة وهو يطالب علنا بإعفائه من شرط احترام قانون المرور.

قطاع وجب أن نعترف أنّه صورة عن الوضع «الــ……» الذي انحدرت إليه البلاد، حين لم تعد النخبة، لا قادرة على استبطان أنّها نخبة ولا قادرة على أداء دور النخبة، في زمن التسيّب/الإسهال الإعلامي وفي فترة الجوع فيها أمرّ أو بالأحرى لا يقل مرارة عن السجن.

46946418إنّ كنّا قطاعا لا يتحرّك في معظمه أمام أيّ إيقاف (في أقصى الحالات) سوى من بوّابة «فرض الكفاية»، فكيف نطالب من سُدّت أمامهم أبواب الرزق، وأقصد في المرتبة الأولى الإعلام العمومي والمؤسّسات المصادرة، بأن يتحذوا موقفًا موحدا، وبأن يكون وعيهم جماعي وفاعل وليس فردي وكامن…

حين نحترم ذواتنا (أهل المهنة) وجب أن ننزع «ورقة التوت» ونعترف أنّ استنجاد وسائل الإعلام الحكوميّة والمصادرة برئيس الدولة واستجابته، تمّت، سرّا أو علنًا، أمام الإعلام أو في الغرف المغلقة، عن وعي أو عن غضّ طرف، وفق قاعدة «التمويل مقابل الخطّ التحريري» لأنّ لا نظام في العالم وفي أيّ دولة كانت يموّل وسائل إعلام يخشى من فعلها…. فقط يختلف «الإخراج» من دولة إلى أخرى ومن وهذه الوسيلة الإعلاميّة إلى تلك.

أمام هذا المشهد الفظيع، لا أحد يتحمّل المسؤوليّة بمفرده ولا أحد معفى من المسؤوليّة، لأنّنا أصبحنا (في غالبيتنا الغالبة) مشاريع فرديّة تتدثّر بلحاف الجماعة عند الحاجة والاقتضاء….

صار الدفاع عن وجود وسيلة الإعلام أهمّ من الدفاع عن القيم، دون الحديث عن عدم استيعاب قطاعات واسعة من العاملين في القطاع أنّ هذه المهنة قد أصابها من التغييرات على مستوى وسائل الإنتاج أكثر بكثير ممّا أصاب مهن أخرى. اختفى المصوّر الفوتوغرافي أو هو في طريق الاختفاء من الصحف الورقيّة وصار «الأخذ» من النت أمرًا مستباحًا وكذلك أصبح من مهام الصحفي الذي يغطي ندوة صحفيّة أن يلتقط بعض الصور من خلال هاتفه النقّال، والحال أن أبجديات الممارسة الصحفيّة تميّز في جلاء بين المهنتين أيّ الصحفي المحرّر مقابل الصحفي المصوّر…

أمام هذا التدهور في الوضع المهني وأمام اكتساح وسائل التواصل الاجتماعي المشهد الإعلامي والاستعاضة به عن الاعلام المحترف، لم تجد إحدى الصحفيات بدّا من أخذ خبر ومجموعة من الصور عن صفحة «اشرب تايك هاني جايك»، وذكر المصدر عند بثّ الخبر على احدى المحطات الإذاعيّة….

بقي على الدولة أن تفهم أنّ الإعلام الخدوم لا قدرة له على تقديم الإضافة لأنّه «جهاز تابع» Sous-pouvoir أسوة بالإعلام المناقض Anti-pouvoir، كلاهما (على طريقته) خطر على الدولة التي تعجز عن إرساء صحافة مسؤولة Contre-pouvoir، حين ثبت بالدلائل التاريخيّة القاطعة أنّ لا نظام دام ورسّخ أسسه دون منظومة يرى من خلالها هفواته، ومن ثمّة على هذا النظام القبول بما قد يرتكب (من وجهة نظره) زياد الهاني أو غيره من «تجاوزات»، أفضل من جوق المطبلين القادرة على تسويق آريال شارون في حال خرج من قبره وأغدق عليهم العطاء.

ضمن هذا المشهد تأتي «غرابة» إصرار الدولة على منع «التداول الإعلامي» لقضيتي «التآمر»…

من منطوق قانوني بحت يستحيل تعريف تعبير «التعاطي الإعلامي» خاصّة وأن اللغة المعتمدة من قبل الجهاز القضائي (أي القضاة) هي لغة توصيف ضمن المعنى المباشر والقاطع للكلمة، والحال أن لفظ «التعاطي» يحيل على معان أكثر من أن نحصيها عند الربط بلفظ الإعلام.

ليكون السؤال عمّن هو معني بالملاحقة القضائيّة، وأكثر من ذلك ما هي اثباتات هذا التعاطي؟

هل نشر صفحة فايسبوك معلومات عن قضيّة «التآمر» تدخل ضمن صلاحيات القضاء التونسي، والحال (لغويّا مع إدراك أهميّة اللغة في مجال القضاء) أنّ «المذنب» (المفترض) لا يمتلك أبجديات هذا التعاطي في صيغته الإعلاميّة؟

كذلك، ما هي الطرق المعتمدة لتعقّب صفحة فايسبوك يديرها أحدهم من أستراليا أو نيكارغوا، والحال أن أيّ برنامج VPN (في نسخه المجانيّة قبل مدفوعة الأجر) يمكّن من مخاتلة أيّ رقيب.

حينها نعود إلى زمن حسبناه ولّى وانقضى… لعبة القطّ والفأر… زمن عمّار 404….


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي