أيّ مكانة لحريّة الاختيار في عصر «المؤثرين»؟؟؟

3 أكتوبر 2023

كلّما تقدّم الزمن وارتفع عدد الملتحقين بمواقع التواصل الاجتماعي، كلّما ترسّخت مكانة من صاروا يحملون تسمية «المؤثرين» Influenceurs بالفرنسيّة وبالإنجليزية Influencers.ظاهرة متعدّية للحدود ومتجاوزة للأقطار، حين تكوّنت «نخبة» تجاوز تأثيرها المجال الضيّق المعتاد (قبل وجود الانترنت) ليصل صدى بعضهم ومن ثمّة تأثيرهم حدودا لم يكن أحد يتخيّلها.

 

ظاهرة شديدة التحرّك أيّ أنّها ليست حالة ثابتة أو مستقرّة. على مدى اليوم والساعة وحتّى الدقائق الثواني، يخرج إلى الوجود مؤثرون جديد ويختفي أخرون، في حين يتسابق «الأحياء» منهم وفق قانون الطبيعة «الداروينية»، أيّ البقاء للأصلح والدوام للأقدر على الثبوت في وجه المتغيّرات.

تأثير هؤلاء المؤثرين تجاوز ثنائيّة «متأثر» يقابله «مؤثر»، لنقف اليوم أمام مساحات افتراضيّة شاسعة ممن صار أو هو أعاد صياغة حياته (أو بالأحرى في جوانب منها) على أساس العلاقة التي صارت تربطه بالمؤثر وأحيانًا كثيرة بجملة من المؤثرين.

هذه الظاهرة، تمثّل نتاجًا طبيعيّا للإمكانيات التي يطرحها الانترنت عامّة ووسائل التواصل الاجتماعي خاصّة، مع اختلاف بين وسيلة وأخرى.

 

فعل «التأثير» هذا ليس طارئا، بل هو قديم قدم التاريخ، حين يذكر التاريخ أنّ «المؤثّر» عمر بن أبي ربيعة استطاع بمجرّد بيتين جعل النساء يقبلن في سرعة على اقتناء «الخمار الأسود»، بعد أن تغنّى بحاملته.

الأمثلة كثيرة على مدى تاريخ البشريّة، لكن ما نعيشه راهنًا يتجاوز ما عرفته البشريّة على مدى تاريخها، أمام ما نرى من تكثيف وتسارع، وأكثر من ذلك القدرة على مشاهدة هذه الظاهرة ومتابعتها على المباشر…

كذلك، حافظت «اللعبة» على شروط وجودها القديمة، أيّ أنّ المقارنة التي تمّت بين الأديب عبّاس محمود العقّاد والفنّان شكوكو، أيّ عمّن الأكثر شهرة، وتداولتها الصحافة المصريّة، هي ذاتها القائمة أو يمكن أن تقوم بين الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري، من ناحية، مقابل أيّ راقصة ذات عمر افتراضي على النت، لا يتجاوز سنة أو ربّما ينقص قليلا.

 

تشتكي الطبقة المثقفة كما عهدها منذ قرون من قدرة هذه «الطبقة الطفيلية» على احتلال موقع الصدارة، مع العلم (وهذا على قدر كبير من الأهميّة) تأتي الظاهرة أهمّ من المؤثرين ذاتهم، الذين (أشبه بالفراشات) صار معدّل وجود الواحد منهم في تراجع، حين يشهد عددهم ارتفاعًا صاروخيّا، وأكثر من ذلك أعداد من يرغبون ويعملون وقد حصروا جميع أحلامهم في النفاذ إلى هذا العالم والثبات فيه أقصى فترة ممكنة.

إنّه مجتمع الاستهلاك في أبهى مظاهره. «المؤثر» هو في الآن ذاته صانع محتوى قابل للاستهلاك، أيّ مجرّد «سلعة» يتمّ القاء ما تبقّى منه في مزبلة التاريخ، أيّ أنّ ظاهرة الاستهلاك ومن ثمّة ما توفّر من «أرباح» (أسوة بالمخدّرات) أهمّ بكثير من البضاعة ذاتها.

أبعد من الظاهرة وأعمق من شروط قيامها ومحدّدات دوامها، يأتي السؤال عن تأثير كامل هذه الآلة الانتاجيّة على منظومة الفكر وحتّى الوجود البشري من أساسه، حين تأكّد بالكاشف أنّ فعل «التأثير» هذا أبعد بكثير من مجرّد «محاكاة» دون تأصيل، وأعمق جدّا من أن تكون «تقليدًا» عابرًا.

 

حين نوسّع دائرة الرؤية ونعمّق مجال التحليل يكون السؤال عن تأثير فعل «الإدمان» هذا على طبيعة الذات البشريّة من أساسها؟

شرعيّة طرح السؤال من عدمه، تقوم على تشخيص حالة «التبعيّة» وحتّى «التقديس» التي صارت تربط «المقلّد/المريد» بمن يؤدّي دور «القدوة»، في علاقة تأتي أشبه بما هو قائم قبل حلول ما يسمّى «العقد الاجتماعي» وبصفة أعمّ علاقة «المواطنة» الرابطة (أو من المفترض ذلك) بين الحاكم والمحكوم.

السؤال في أساسه يكمن في البحث عن هويّة «حكّام الغد» (ضمن المعنى الواسع لمفهوم الحكم)، حين سيتقلّد «جيل التقليد» مسؤوليّة إدارة الشأن العامّ وما هو واجب تلبية شروط الحياة الكريمة (على الأقلّ) لمن يعيشون داخل كيان (يسمّى) «الدولة»؟؟؟

 

أبعد من ذلك وأعمق بكثير، كيف يمكن لمن ألف التقليد وقامت ملكة القرار عنده على المحاكاة، أن يتلبّس قدرة التمييز ويكون قادرًا على الفرز عندما تضعه الظروف، وهي فعلا ستضعه، أمام خيارات متعدّدة، سواء عند انتخاب من يمسكون مقاليد الحكم في البلاد، أو هي الخيارات الاستراتيجيّة المحدّدة لملامح المستقبل القريب منه أو البعيد؟؟؟

الأخطر وما يدفع إلى طرح الأسئلة، سواء صدقنا «نظريّة المؤامرة» أو نفينا ذلك، أنّ الماسكين لدواليب السلطة المتجاوزة للبعد القُطري، ليس فقط يقبلون هذه الظاهرة (أيّ المؤثرين) بل (وهنا المصيبة) يشجعون عليها أو هم يعتبرونها من أصول الحكم عندهم.

mنزع ملكة التفكير والقدرة على التمييز وطاقة طرح أسئلة الاحتمال من أساسها، ليست حكرًا عبر التاريخ وخاصّة في العصر الحديث على ظاهرة «المؤثّر/المتأثّر»، بل هي انطلقت مع ظهور وسائل الإعلام السمعي البصري وترسّخت، حين صارت «الإعلانات التجاريّة» هي من يحدّد قرار الاستهلاك لدى الفرد.

 

في ظاهر الأمر يقوم هذا المنطق الاستهلاكي ويتأسّس، ومن ورائه ظاهرة «التأثير» على مقولة أنّ ما هو معروض على المتلقّي/المستهلك لا تعدو أن تكون سوى «اقتراحات» يملك أمامها (هذا المستهلك) قرار القبول/الرفض وأكثر من ذلك قدرة الإعراض عنها وعدم رؤيتها من أساسه، وبالتالي، وهنا أساس المعادلة، لا يمكن محاسبة صاحب «البضاعة» أو «المروّج» للمواد الداعية إلى الاستهلاك وكذلك الجهة التي تزرع المؤثرين في جميع الفضاءات، في حال «أدمن» هذا المستهلك هذه «المادّة»…

فلسفات عديدة قامت ولا تزال تقوم على أنّ الإنسان يمتلك حريّة كاملة في إدارة شأنه الخاص Libre-arbitre، بما في ذلك حريّة الانتحار، ومن ثمّة تأتي «حريّة» الوقوع بين براثين القائمين على صناعة الإعلانات التجاريّة وخاصّة صياغة محتواها وأعمق من ذلك تقليد هذا «المؤثّر» أو ذاك والتماهي معه حدّ الذوبان دون حدود، حريّة مطلقة ودون حدود.

الصراع الدائر داخل دوائر الفكر الأوروبي والغربي عامّة، لا تقوم بين منطق رفض قاطع، في مواجهة قبول لا حدّا له، بل بين درجات هذا القبول، أيّ هناك من يرى بوجوب ترك الفرد/الإنسان يقرّر ما يريد، بما في ذلك حريّة الإدمان (مهما كان الشكل) وكذلك الانتحار في حال انتابته الرغبة في ذلك، في مقابل من يحاولون وضع «حدود» أمام هذه «الحرّيات» ويعتبر أنّ واجب «الجماعة» سواء كانت دولة أو المجتمع المدني أو غيره انقاذ هذا الموطن/الفرد من شرّ أعماله.

 

ضمن الفضاءات غير الأوروبيّة، وخاصّة الفضاء العربي الإسلامي، تأتي هذه المعادلات أكثر تعقيدا وأشدّ غموضا، حين ينضاف إلى جميع آليات هذه الأشكال من «الإدمان» عمق التوجه الحضاري المحدّد في الغرب للموقف من هذا الفضاء، أيّ اعتباره «تابعًا» على أساس اقتلاعه من جذوره، وكذلك ادماجه تحت السقف الحاكم لمنطق «السيطرة السائلة» في الغرب.

هي حرب ناعمة وخفيّة، لكن مستمرّة دون هوادة. مواجهة لا إحساس فيها للفرد الغارق في شعاب البحث عن مجد لذاته أو لجماعته مهما توسّعت دائرتها، بأيّ دواعي للحيطة والحذر، ما دام يتلهّى بحروب الداخل التي تستنفذ طاقاته…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي