عطفًا على نص رياض الشعيبي : أصول/أفول الشرعية/الانقلاب…

11 يونيو 2023

إلى عموم القراء :

لا يطرح هذا المقال مواجهة تستحقّ الفرجة من باب التفريج عن الكبت بالمفهوم الكروي، ولا مشهد الاسقاط بالضربة القاضية، ولا «إفحام» لا يبق ولا يذر ولا حتّى «ردّها عليه إن استطعت»…

كما لا يقدّم مجاملات تعيق النقاش وتقلبه قصفا بالحروف السمينة…

هذا نصّ يسعى وراء إشعال شمعة في عتمة، دون أدنى إدانة لبقية الشموع.

مرحبا بمن احترم نفسه.

****************************

إلى الصديق الخلوق رياض الشعيبي :

«غاضني» [ضمن جميع الكلمة] غياب أيّ تعليق على نصّك من قبل القراء والمتابعين، مع ما أعلم لك من متابعين، والأخطر حجم «النبّارة» من جميع الملل والنحل، الذين ينظرون إلى أيّ «نقاش فكري» بمنطق «الفيراج» في كرة القدم.

ربّما كان واجبا أن أدسّ ضمن ما كتبتُ شعارات مثل «سفّاح… قتّال الأرواح» وما شابها ومن ثمّة يكون الردّ (ضمن المنحى ذاته) متساويا في العنف اللفظي لكن في الاتجاه المعاكس، فتلهج العامّة ويهيج الرعاع، وننقلب سويا إلى «فرجة» تروق للمتلهفين إلى استباحة الدماء.

هذه الحقيقة العلقم، تأتي الدليل القاطع على حجم الخواء الذي تعيشه أمّتنا (وإن كان بدرجات متفاوتة) تحت شعار «اضرب ما زال ينفّس»…

هذا على الحساب ولم أقرأ بعد الكتاب (رحم الله الشيخ بن مراد)…

من الأكيد أن المجال مفتو ح أمام جميع الكتابات الرصينة والهادئة

****************************

OIPأما بخصوص النصّ ذاته [انقر هنا للحصول عليه]، فأعتبره «مستفزّا» ضمن المعنى الجميل للكلمة، حين يفتح أمام القارئ المتمعّن أكثر من «كوّة ضوء» تنير دربا يستزيد من النور، ومن ثمّة يكون من حقّ كل قارئ الانعطاف لمواضيع عديدة جميعها حارق، بمعنى الأهميّة…

وجب الانطلاق (حسب رأيي) من تحديد المفاهيم، التي (وهنا الخطورة المعرفيّة) نتداولها جميعًا، دون أن يجمع بين الدلالات المعتمدة من قبل كلّ فرد وجماعة، الحدّ الأدنى من التقاطع والقاسم المشترك، الذي يمكّن من حدّ الأدنى من «تبادل المعرفة»…

أزمة حضارة ومعضلة ثقافة، تتعدّى شخصي وشخصك المحترم.

نأخذ لفظي «الانقلاب» و«الشرعيّة»، على اعتبارهما وجهين لذات العملة الأكثر تداولا. ظهور هذه يعني اختفاء تلك (لدى العموم على الأقل)، لنسأل ليس فقط عن الموقف الأخلاقي المجرّد من أيّ من اللفظين، بل (وهنا الخطورة) عن المعنى المتداول، وأساسًا المعمول به من قبل الجميع.

عندما نتحدّث عن «الشرعيّة» في تونس يبرز إلى ذهن المستمع الذي يعيش في هذه البلد، أنّ المقصود هي «كامل المنظومة التي أنجبتها سلسلة من الانتخابات»، التي أمّنت (نظريّا) للفائز «المكوث على سدّة الحكم» طوال الفترة الفاصلة عن الانتخابات القادمة، ومن ثّمة يكون اليقين «أنّ من صعد بالصندوق لا ينزل عن سدّة الحكم سوى بالصندوق» مع التأكيد على أنّ الفائز يضمن سلامة المغادر، في جسده وماله وأهله.

تطرح منظومة الحكم المنخرطة ضمن سياق الديمقراطيات الليبراليّة المعتمدة في الغرب، سؤالا على قدر كبير من الوجاهة : «هل هذه «الشرعيّة» مطلوبة لذاتها أم هي مقصودة لفوائدها؟؟؟؟»

بلغة أخرى، هل نعتمد ميكانيك الانتخابات المولدة للشرعيّة مهما كانت المُخرجات، على اعتبار أنّ «من لم يحسن الخيار، يعاود الخيار في الانتخابات الموالية؟»، على اعتبار أنّ «الشعب (دائمًا وأبدًا) مصدر الشرعيّة»، وأنّ «الشعب على قدر كبير من الرشد»، أو «لا خيار أفضل من خيار الشعب»…

بمعنى آخر، أيّ «انقلاب» على «الشرعيّة» لا يعدو أن يكون سوى استصغار لما هي «عظمة الشعب»، المعطى الأقرب إلى القداسة ضمن الفكر الديمقراطي الليبرالي. من ثمّة أيّ «قدح» في هذه «العظمة» يستوجب (وفق ذات الرأي) انتفاضة هذا «الشعب»…

«عظمة الشعب» تعني قدرته على تجاوز جميع المعوقات المنتصبة أمامه لتدجينه، لكن حين نستأنس بآراء عديد المفكرين في الغرب، الذين لا يمكن اعتبارهم أعداء «الديمقراطيّة الليبراليّة»، مثل الشهير أفرام نعوم تُشُومِسْكِي، والأقلّ شهرة بكثير ولكن لا يقلّ عنه أهميّة إيف أود Yves Eude، وغيرهما كثير، أنّ النظام الإعلامي المسيطر على وعي الشعوب (الغربيّة بالتأكيد قبل بقيّة الشعوب) ينزع عن الناخب القدرة على التفكير بكلّ عقلانيّة. العقلانيّة الضامنة لما هي «عظمة الشعوب».

تحالف الإعلام مع رأسمال، أو بصفة أكثر تدقيقا، زواج رأسمال الفاسد مع إعلام العار، ولّد مناخا بصدد المساهمة في تدجين عقل الناخب، بمعنى أنّه يختار بين من هم معروضين عليه حصرًا.

يمكن لمن يريد الاستزادة من المعرفة بأساليب تدجين الرأي العام، الاطلاع على هذا الشريط التوثيقي «كلاب الحراسة الجدد» عن علاقة «خذني في حنانك» بين رأسمال الفاسد، في فرنسا واعلام الدعارة القابل لخدمة من يدفع. الشريط يعود إلى 2012، مع تأكيد جميع المراقبين أنّ الوضع ازداد سوءا. [اضغط هنا للحصول على الشريط].

اجماع لدى علماء الاجتماع في الغرب، ليس فقط يطعنون في مقولة «الشعب العظيم/المفدّي»، بل يعتبرون من يؤسسون أحلامهم/أوهامهم على هذه المقولة، إمّا قصيري النظر أو هو انعدامه، أو (والأمر أخطر) هم انتهازيين، لا غير.

سقوط مقولة «الشعب العظيم/المقدّس» معطوف على سيطرة رأسمال الفاسد على عجز الديمقراطيات الليبراليّة على تأمين الرخاء للجميع (في حدّه الأدنى، ينزع عن هذا النمط أيّ قداسة، بل يجعله من الأساليب الدكتاتوريّة «الناعمة» خاصّة مع قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على التلاعب بالوعي العام، معطوفا على ما «يبشّر» به «الذكاء الاصطناعي» من «انقلابات» في علاقة وعي الفرد بسطوة رأسمال.

لا حاجة للتأكيد (دون جلد الذات) أنّ أوضاع الديمقراطيّة الليبراليّة عندنا ليس أفضل…

هذا التشخيص تتجاور تونس بكثير بل هي مطروحة ضمن المجال الغربي الذي يعتمد «الديمقراطيّة الليبراليّة»، حين بدأ هذا النظام الذي تمّ تقديمه في صورة «نهاية التاريخ» [أي المنتهى وسقف الممكن التاريخي] بطرح (داخل صفوفه) أسئلة تمسّ «ثوابت الإيمان» بهذه «الحقيقة المقدّسة».

استطاعت «الديمقراطيّة الليبراليّة» أن تحوز مرتبة «النظام الأفضل في التاريخ»، حين ضمنت «الحريّات» مصحوبة بما هو «الرخاء» الاجتماعي.

الثلاثون سنة المجيدة Les trente années glorieuses (من نهاية الحرب الكونيّة الثانية إلى حرب أكتوبر وارتفاع سعر النفط، تقريبًا) مثلت في فرنسا الفترة الذهبيّة لهذه الأيديولوجية، حيث قبل رأسمال «تقاسم الخيرات» مع الطبقة الشغيلة…

الآن (في الغرب) السؤال قائم حول مكانة «الشرعيّة» العاجزة/الرافضة لتقاسم الخيرات، بل المصيبة (وفق مناهضي هذه «الشرعيّة») أنّ القدرة الشرائية في تراجع شامل، دون أن ننسى تزايد وتيرة قمع المظاهرات.

بين «تقديس الشرعيّة» في بعدها «الشكلاني/الميكانيكي» على اعتبار الانتخابات المعبّر الأوحد عن «إرادة الشعب» وبين الخروج على السلطة، لم يتردّد أصحاب «السترات الصفر» ومن تظاهروا منذ فترة ضدّ قانون تنقيح نظام التقاعد، على اختيار صفّهم، لتتجاوز المطالب في سرعة كبيرة «التخفيض في سعر المحروقات» (عند انطلاق حملة السترات الصفر)، وابطال تعديل قانون التقاعد راهنًا، ليكون الرفض القاطع لشرعيّة النظام الذي (وجب الاعتراف له) بأنّه لم يفعل سوى «اللعب» ضمن فصول الدستور، أيّ إنّ «الشرعيّة» القائمة حاليا في فرنسا، لم تخالف فصلا في الدستور، لكنّ الغالبية الغالبة من الشعب متضرر من التدهور الاقتصادي، والأهمّ رافض لهذا «الإصلاح»…

هذا عن فرنسا، أمّا تونس، حين لم يُقدّم أيّ «منوال تنمية» أيّ «سنة مجيدة»، مع استثناء (من زاوية ما) تعميم التعليم والصحة بُعيد الاستقلال.

الفرنسيون يدافعون عن «المكاسب» يخشون فقدانها، في حين قامت الثورة في تونس مطالبة بما هي «المكاسب» الواجب الحصول عليها، لتتوالى الحكومات بعد 14 جانفي 2011، وفق نظام سياسي يقوم على «الديمقراطيّة الليبرالية»، العاجزة (في تونس) بفعل العوامل التي أدّت إلى اندلاع الثورة، والعاجزة (مرّة أخرى) بفعل التبعيّة الاقتصاديّة لمنظومة «الاقتصاد المعولم» الذي ليس فقط تراجع على مستوى تقاسم الثروة مع «الطبقة العاملة»، بل صار ديدنه «الضغط على الكلفة» عبر السعي دون هوادة وراء أرخص يد عاملة ممكنة.

كما عجزت «الشرعيّة الانتخابيّة» في فرنسا عن جعل الطيف الرافض لما هي سياسة الرئيس ماكرون، يترقّب الانتخابات القادمة لإسقاط هذا الرئيس وحزبه، لم يكن «العمق الشعبي» في تونس قد نال سوى «ديمقراطيّة رفضت/عجزت عن جلب النموّ وتوزيعه على الجميع.

من الثابت وما لا يقبل الجدل أن أعداد غير هيّنة في تونس، ترفض أن يتم حبسها داخل «ميكانيك» الانتخابات التي عجزت على مدى عشريّة كاملة عن تحقيق الحدّ الأدنى (وإن كان على الحساب) من الشعارات المطالبة بالخبز (رمز الاحتياجات الماديّة) وحرية (رمز الاحتياجات المعنويّة) والكرامة (علوّ الجانب المعنوي على الجانب المادي).

من التبسيط القاتل لأيّ قراءة نقديّة، السقوط في فخيّن :

أوّلا : اعتبار من تقلّدوا الأمور على مدى العشريّة هم (بمفردهم) سبب البلاء الذي أصاب البلاد، وبالتالي من يعارضون أقدر ليس على تقديم الأفضل بل تحويل البلاد إلى جنّة.

ثانيا : اعتبار من تقلّدوا الأمور على مدى العشريّة هم (بمفردهم) الأبرياء وأنّ جميع ما يلصق بهم «الأضداد» من تهم، هي في حكم الباطل أو يمكن تعليلها بما هي «المؤامرات» التي عطّلت المسار وأحدثت الاختلال.

على المقلب الآخر نجد أنّ «الانقلاب» وإن كان معرّفًا ضمن الأدوات التي يعدمها، إلاّ أنّ الأهمّ من الفعل ذاته، زاوية النظر إليه.

لا يمكن أن نطرح سؤالا (نظريّا) عن الانقلاب في بعده الميكانيكي، مع الاكتفاء بالإجابة لتحديد ثنائيّة المقدّس/المدنّس، حين ثبت بالدليل المادي القاطع (في تونس على سبيل المثال) أنّ «أنصار الانقلاب» لا يمثلون تلك «الحالات المنفردة»، بل وهنا الخطورة (بالنسبة لأنصار الشرعيّة) أنّ هذه الجماعة ترفض صورة الديمقراطيّة عاقر إنجاب أيّ انجاز ملموس، باستثناء ميكانيك الديمقراطيّة ذاتها.

من التبسيط كذلك، ما يعمد إليه عدد كبير من «أنصار الشرعيّة» اعتبار أنّ «الانقلاب» على «الشرعيّة» قسم عدّاد الزمن نصفين :

أوّلا : ما قبل بيان 25 جويلية، حين لا يمكن نقد تجربة الشرعيّة. الأمر يمثل ذلك عن وعي أو عن غير وعي، خدمة مجانيّة لهذا الانقلاب

ثانيا : ما بعد بيان 25 جويلية، حين لا يمكن أن نرى نقيصة إلاّ وكان سببها هذا الانقلاب.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي