هكذا أفقدت غزّة ديمقراطيّة الغرب «عذريتها»…

14 أكتوبر 2023

لا نقاش ولا اختلاف أنّ الموقف الذي اتخذته الدول الغربية، تجاه ما يدور في غزّة، يقطع مع (تلك) الصورة «الرائعة» لديمقراطيات صارت أقرب إلى «المسلّم الديني» الذي لا يجوز (بأيّ حال) الكفر به أو حتّى السخرية منه، خاصّة من قبل، طيف غير هيّن، ضمن دول العالم الثالث، والعرب على وجه الخصوص.

سواء اعترفت هذه الطائفة بأنّ الإيمان بهذه الديمقراطية مترسخ في الأفئدة، بل يأتي على صورة «إيمان الأنبياء» ليقين في دواخل هؤلاء بأنّ «الصبح (الديمقراطي في بلدانهم) قريب»، أو هم اعترفوا (بصوت منخفض) أنّهم يفعلون ذلك من باب «الانتهازيّة» (المحمودة في السياسة) حين جميع الغايات تبرّر جميع الوسائل، الطرفان لا ديدن لهما سوى تمجيد هذه الديمقراطيّة واعتبارها «السبيل الأوحد»، ونورًا ونبراسًا، لا بديل عنهما للوصول إلى السلطة.

المسألة تتجاوز هذا الفريق بشقيّه، المؤمنون كما أهل النفاق، لتهمّ طبقة سياسيّة بكاملها، وإن اختلفت من بلد إلى آخر، إلاّ أن جميعها يولي أهميّة قصوى لنظرة (هذا) الغرب إلى مستوى الديمقراطية في هذا البلد أو ذاك.

في المقابل، اعتاد الغرب (بشقيه الأوروبي والأمريكي) أن يستلّ سيف «الديمقراطيّة» أشبه بذلك «السلاح السرّي» القادر على جعل الأغلبية الغالبة من دول العالم الثالث تتراجع، لتصير أشبه بتلك الكائنات الليليّة عند مواجهة نور شمس يوم قائظ، كلّما أراد تركيع/احراج أيّ طرف عربي سواء كان في الحكم أو المعارضة، ممّا جعل عددا غير هيّن من التنظيمات السياسيّة، تصوغ أو تعيد صياغة ذاتها بالكامل رغبة في التوافق حدّ التطابق التام مع ظاهر (هذه) معايير الديمقراطيّة الغربيّة.

AA1dWyBUأشبه بتلك الصورة التي شاهدناها عديد المرّات على شاشات السينما ومن بعدها التلفزيون، عندما يستفيق الممثّل من السحر ويسترّد حواسه لينظر حول ذاته في استغراب شديد، نرى العديد من المثقفين بمعية رهط من السياسيين في حال استغراب تام، أمام ما يجدّ في غزّة من جرائم، أشبه بمن يرى الجاذبية تعكس اتجاهها، مشدوهًا لا يدري ماذا يقول، وقد انقلبت «ملائكة الأمس» إلى «شياطين اليوم»!!!!

أشبه بمغنّ اعتاد ترديد أعمال غيره، يجد ذاته محروما من هذا «الحق»، ودون القدرة على ابتداع أغان خاصّة به. لا هو فرح بهذه «الحريّة» التي تبدو في أفضل صورةـ ولا هو قادر على التعبير عن حزنه الشديد بسبب فقدان هذه «الغلّة» التي كانت تمثّل مصدر رزقه الأوحد، تسعى هذه الطائفة لإيجاد تجارة جديدة، تمكّن من نيل ما اعتادوا من رزق، ولمَ لا استرداد المجد الغابر.

تعلم الدول الغربيّة أنّ وقوفها القويّ والفوري إلى جانب الكيان الصهيوني في مسألة مهمّة مثل «طوفان الأقصى» سيكون تأثيره شديد الأهميّة على العمق العربي كما النخب بشقيها الفكري كما السياسي، دون أن نغفل طيفا ممن يركبون مواقع التواصل الاجتماعي ويسعون إلى ترك بصمة لا يمكن محوها، إلاّ أنّها (أيّ الدول الغربيّة) تدرك من منظور استراتيجي أنّ فقدان الكيان يمثل خسارة وجوديّة، تكفي وتتجاوز في القيمة ألف مرّة سواء ما تجنيه أو ما تكسبه من لدن نخب (العربيّة) لا همّ لها سوى النظر إلى ذواتها في مرآة الديمقراطيّة من ناحية، أو «الضرر» الذي سيسبّبه هذا الطلاق من ناحية أخرى.

تملك دول الغرب أكثر من «سلاح سرّي» في جعبتها، أهمّها «السلاح الاقتصادي» حين تأتي عديد الدول العربيّة في حاجة إلى السيولة، أي ذلك الأكسيجين الذي بدونه تختنق، لتكون «مخيّرة» بين الانحناء طاعة وامتثالا أو مواجهة «ثورة» تهزّ عرشه وتدكّ سدّة ملكه.

لا أحد في الغرب يرغب أو يرى مصلحة في تمكين (هؤلاء) «الرعاع» من النسخة الأصليّة من ديمقراطيّة لا يراها هذا الغرب مناسبة لغيره، كما لا أحد من دول العالم الثالث تبغي في الحصول على النسخة الأصليّة، لأنّ ذلك يستوجب توفير من الشروط ما لا قبل لهذه الدول به، لنكون في جميع الحالات أمام سيناريو «الملك العاري»: الغرب (مثل عاداته) يلقي الخطب العصماء على مسامع الناس عن منافع الديمقراطية، والحال أنّ الجميع اكتوى بنارها، حين لا أحد (دون استثناء) يصدّق ما يسمع، لكنّ الجميع يتظاهر بالاهتمام ويبدو ليس فقط مصدّقا بل من المؤمنين القادرين على التضحية بالغالي والنفيس من أجل هذه الديمقراطية.

هو اتفاق ضمني، غير مكتوب حين يعلم الجميع علم اليقين، أنّ الواعظ كاذب، لكن دون الجرأة أو هي المصلحة على معارضته، حين يملك (هذا) «الملك» ما يسدّ الأفواه المحرجة التي تهمّ بالكلام، أو قطع الأعناق، دون الخروج قيد أنملة عن الأصول المؤسّسة لهذه الديمقراطيّة.

الوضع أقرب إلى ركح مسرح (بالمعنى التراجيدي لدى الإغراق) : الغرب يتظاهر بتوفير الديمقراطيّة في صورة «النسخة الممتازة»، في حال أنّ هؤلاء «الحرفاء» لا قبل لهم ولا رغبة لديهم، بل لا يرون مصلحة في ذلك. فقط يكتفون بنسخة مقلّدة بعلم الغرب وموافقته، بل بقراره، لتكون «مسرحيّة». الغرب يبدو في صورة «راهب الديمقراطيّة» في حين تبدو هذه البلدان في ثوب «الناسك» الراغب في تمثّل الديمقراطيّة على أحسن وجه.

من فوائد هذه الحرب الدائرة على أرض فلسطين أنّها جعلت «حزب فرنسا» يصاب بالبكم. لا هو قادر على التبرير ولا أحد سيصدّقه حين عمد بعضهم إلى ركوب الموج.

المطبّعون أشدّ حرجا. هم (في نظر الغالبيّة الغالبة) لا يقلّون جرما عن أسيادهم، بل أشدّ جرما وأعمق ذنبا، حين صاروا يتخفّون، وقد ركب بعضهم الموجة وصار يزايد، رافعا شعارات النضال من أجل تحرير القدس.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي