هكذا دمّرت وسائل التواصل الاجتماعي الأحزاب السياسيّة…

29 سبتمبر 2023

على مدى العالم بأكمله وإن كان بدرجات جدّ متفاوتة، لكن منحى التراجع ذاته، الأحزاب السياسيّة فقدت (بعض/معظم) بريقها السياسي، سواء لدى الطبقة المثقفة/المسيّسة التي يعتقد أصحابها بالقدرة أو الحقّ إن لم نقل أولويّة قيادة هذه الكيانات السياسيّة، أو هم عامّة الناس الذين لا همّ لهم سوى تلبية الحاجيات الماديّة لعوائلهم، وإن أمكن ما تيسّر من مباهج الحياة.

هذا التغيّر/الانقلاب في النظرة إلى الحياة السياسيّة بأكملها، يمكن اعتباره معطى عام وشامل ومتجاوز للحدود وجميع أشكال التقسيم السياسي التي يعرفها العالم.

يمكن الجزم أن الهالة التي كانت تحيط بمن يمارسون السياسة، سواء ضمن صفوف السلطة القائمة أو طيف المعارضات، قد تراجعت أو هي غابت في معظم الحالات.

وسائل التواصل الاجتماعي جعلت المتلقّي العادي، يرى رجل السياسة في صورة «الرجل العادي» حين مكّن موقع الفايسبوك مثلا (قانونيا) الجميع من الأدوات ذاتها، وجعل (نظريّا) «الأمير» كما «الفقير» سواسية أمام هذا العالم.

mليس بمقدور جميع من ينتمون إلى المجتمع السياسي (حكمًا ومعارضات) الاقناع بأنّ لديهم من «التميّز» ما جعلهم أهلا لممارسة هذا الدور أي السياسة، التي من أصولها التحكّم في مصائر العباد والبلاد.

بل أخطر من ذلك، رفض/عجز العديد من الوجوه السياسيّة تأكيد صورة «التميّز» التي تؤمّن (نظريّا) الانتماء إلى «الصفوة» الحاكمة أو المؤهلة (نظريا) لممارسة الحكم، جعل المواطن العادي السابح في بحور مواقع التواصل الاجتماعي يعيد طرح السؤال بل هو الطعن أحيانًا في شرعيّة المنظومة التي قام عليها «الناموس» المؤّسس للحياة السياسيّة.

حريّة التعليق والمشاركة وتقاسم الكتابات، جعلت طيفًا غير قليل من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي يحسّون أن بالإمكان أو هي الضرورة إن لم نقل أحقيّة اعتبارهم ضمن «الصفوة/النخبة» التي بإمكانها أو بالأحرى من حقّها الالتحاق بهذه الطائفة الماسكة للمشهد السياسي.

من ذلك نشهد تباعدًا بدأ يصل في حالات عديدة حدّ الانفصام الحقيقي والفعلي بين الأحزاب على اعتبارها «هيكلا/وعاء» (قانونيّا) بما تعني الكلمة من مشاركة في الانتخابات ودخول المجالس المنتخبة وإنتاج قيادات البلاد، من ناحية مقابل «المحتوى» البشري القادر على أن يشكّل المحرّك الذي بفعله وفضله، تدور دواليب هذا التشكيل السياسي أو ذاك.

أمام هذه «الازدواجيّة» يتشبّث السياسيون بما هي «شرعيّة التنظيم» أي جلوسهم على درجات الهرم السياسي لهذا الحزب أو ذاك، وأنّ على من أراد مشاركتهم احترام كامل الدرجات الموصلة إلى هذا الموقع، في حين تعتبر الأصوات المكافحة على صفحات التواصل الاجتماعي أنّ أداءها على هذه المواقع يؤهلها «أخلاقيا» لاحتلال مراكز متقدّمة ولمَ لا مراكز القيادة.

جميع الأحزاب تعرف هذا الوجه وذاك. وجوه سياسيّة عاجزة عن فرض صورة مقنعة وفق قواعد هذه المواقع، مقابل أقلام يرى أصحابها أنّهم بذلوا ويبذلون من أصواتهم عبر المعارك (الكلاميّة) ما يجعل منهم «فرسان الهيكل» الذي جمعوا «الرتبة الدينيّة» بما هي «القدرة القتاليّة».

عندما ننظر إلى المنطق الحاكم لمواقع التواصل الاجتماعي، نجد تداخلا شديد الاغراء بين «الحقّ في المشاركة»، المفتوح وفق قواعد المواقع أمام الجميع على قاعدة المساواة وفق قانونها الأساسي، المسجّل في ولاية كاليفورنيا بالنسبة لفايسبوك، مقابل ما يراه كلّ «واجب المشاركة» سواء رفعًا لراية هذا التشكيل السياسي أو ذاك، أو ذودًا عن حماه أمام جحافل الأعداء أو هو «الذباب» (باختلاف ألوانه).

هذه «اللعبة» في بعدها المادّي الماثل أمامنا، تحمل في طياتها جدليّة جديدة وغير مسبوقة. من جهة «دهاقنة» (جمع دهقان) الماسكين بمقاليد الحزب على مستوى الشرعيّة التاريخيّة والمال كما العلاقات الدوليّة، مقابل «فرسان الهيكل» الذي يستمنون أنّ كمّ الاعجاب والهالة التي صنعوها لأنفسهم على مواقع التواصل الاجتماعي، يمكن صرفها مواقع من الصفّ الأول ضمن الحلقة المحيطة بمن هو «ربّ الحزب»… أو هكذا هو يتخيلون.

عندما نسرّع المشهد القائم منذ سنين، نجد أنّ «فرسان الهيكل» رغم الوحدة البادية على مستوى الخطاب، يتحرّكون فرادى على مستوى السعي وراء أحقيّة الجلوس حول «الطاولة المستديرة»، متناسين أنّ «الماكينة» وإن قبلت بل رحّبت دائما وأبدا بمن هم «ذئاب منفردة» إلاّ أنّها ميكانيكيا جعلت منهم «موالي» في حاجة إلى «راع» يقايضهم «استرزاقهم» مقابل بعض مباهج الدنيا وغيرها من الاطراء غير القابل للصرف في المحافل السياسيّة.

من الأكيد وما لا يقبل الجدل أنّنا نقف عند فجوة عميقة وشديدة الخطورة بين عالمين. كلّ يبحث لذاته عن جسر، وهو يدّعي «النبوءة» القادرة إلى تحويله إلى «ربّ المرحلة».

أخطر من ذلك، أنّ الجميع يحدوه ذات الشعور: يكفيه أنّ يخطّ كلمات ينازل من خلالها الخصوم حتّى يصير ضمن «المبشرين بالجنّة»…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي